بحصافة امام محمد امام شيخ الأمين بين دعم الدعم
فُوجئ الكثير من السودانيين داخل السودان وخارجه بمقطع فيديو، يُصور زيارة غير متوقعة، إلى مسيد الشيخ الأمين عمر الأمين، انتشر هذا المقطع كالنار في الهشيم في أوساط مواقع التواصل الاجتماعي، فسرعان ما توزع مشاهدوه يُمنةً ويُسرةً في الحُكم على موقف شيخ الأمين من الحرب بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع، ودافع عنه بعضهم محبةً ومودةً، بينما هاجمه البعض -حسداً وحقداً- على استقباله لوفد مليشيا الدعم السريع، وقبوله لدعمهم للمسيد بموادٍ غذائيةٍ يُوزعها على الفقراء والمساكين وابن السبيل، مشيدين بدور المسيد في إطعام السائل والمحروم والذي تسببوا في العوز والمسغبة، لكثير من السودانيين الذين رابطوا بين أهليهم في دورهم، أو أقسروا على النزوح إلى الأحياء والأرياف، طلباً للأمن والأمان من بربرية مليشيا الدعم السريع، قتلاً متعمداً للنفس بغير حق، وكأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى في هذا الصدد: “مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ”.
والمتأمل لمقطع ذاكم الفيديو، يلحظ بغير كثير عناءٍ، استياء الشيخ الأمين وامتعاضه لهذه الزيارة التي اضُطر لاستقبال زائريه، وأسود وجهه وهو كظيم! وهو المعروف بالبشاشة والسماحة في استقبال زائريه، وهؤلاء الذين يحسدون الشيخ الأمين على مسيده وراكوبته (والراكوبة يعرفها كثير من رسلائي الصحافيين والإعلاميين وأصدقائهم من الساسة وأعيان البلد وكانت لهم فيها أيام). والحسد -يا هداك الله- هو تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصرْ للحاسد مثلها! ونفثوا حقدهم على الشيخ الأمين ومسيده بصورةٍ كثيفةٍ في مواقع التواصل الاجتماعي -وما أدراك ما مواقع التواصل الاجتماعي- وأردوا -ظلماً وبُهتاناً أن ينزعوا منه الوطنية، ويجعلوه متهوماً بالتخاذل عن الوقوف خلف الجيش، نسوا أو تناسوا أنه ظل مرابطاً في مسيده مع مريديه من الشباب، والسائلين عن حقٍ معلوم. ففي مقاربة وليس مقارنة يتعرض اليوم الشيخ الأمين للابتلاء والابتلاء نِعمة ورحمة من الله، أما البلاء فهو نِقمة، ما تعرض له شاعرنا الراحل التجاني يُوسُف بشير من ابتلاءٍ في المعهد العلمي بأم درمان، وقد لخص ابتلاءه هذا في خواتيم قصيدته عن المعهد العلمي، حيثُ قال:
قالوا وَارجفت النُفوس وَأَوجفت
هَلَعاً وَهاجَ وَماجَ قُسور غابه
كفر اِبن يوسف مِن شَقي وَأَعتَدي
وَبَغى وَلَستُ بِعابئ أَو آبه
قالو احرقُوه بل اصلبوه بل انسفو
للريح ناجس عظمه وإهابه
وَلَو ان فَوق المَوت مِن مُتلمس
لِلمَرء مد إِلَي مِن أَسبابه
وأكبر الظن عندي، أن الشيخ الأمين سارع إلى إصدار بيانٍ توضيحيٍ لهذه الزيارة، خشية التأويل المغرض، ومنعاً للغط المثير، موضحاً أن قوة من الدعم السريع حضرت مسيده، فالحضور لغةً يعني الوجود في المكان أي أنهم حاضرون في المنطقة، وهو عكس جاءت، فالمجئ لغةً يعني الانتقال من مكانٍ إلى آخرٍ، مما يعني أن هذه القوة موجودة في منطقة المسيد، أي أن شرها قريبٌ، وخطرها مريب! وقامت بإنزال موادٍ تموينية لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، رغم أن الشيخ الأمين أوضح لهم أنهم غير محتاجين، وقد كفوا مرتادي المسيد بالطعام لثلاثة أشهرٍ (طوال أيام الحرب)، ولديهم ما يُكفي من موادٍ تموينيةٍ لتغذية سكان الحي لثلاث سنواتٍ مقبلاتٍ، لكن حتى لا يحدث لغط فإن المسيد مفتوحٌ، وليس له علاقة بالسياسة. السياسة بمعناها الاحترافي وليس الشرعي!
ومن المهم، الإشارة إلى أن الضرورات تُبيح المحظورات، والضرورات تُقدر بقدرها. والأصل في ذلك قوله تعالى: “فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ”. والضرورة في اللغة: اسم من الاضطرار والاضطرار: الاحتياج الشديد، تقول: حملتني الضرورة على كذا وكذا، وقد اضطر فلان إلى كذا وكذا. والضرورة: الحاجة، والشدة لا مدفع لها والمشقة. والضرورة وردت في القرآن الكريم بكل مشتقاتها ثمانٍ مرات، كقوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾. والضرورة هو ما يحصل بعدمه الموت أو المرض أو العجز عن الواجبات. وقول النبي محمد لعمران بن حصين: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب». والضرورة هي من المصطلحات الشرعية التي يستخدمها الفقهاء والأُصوليون في الأحكام كقولهم (الضرورات تبيح المحظورات). والاضطرار والضرورة بمعنى واحدٍ عند الفقهاء. والضرورة عند الفقهاء: بلوغ الإنسان حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعاً أو عُرياناً لمات أو تلف منه عضو وهذا يبيح تناول المحرم. وقد وجدنا بعض الاصطلاحات التي يتساوى معناها لكل منها في نظرة عامة وهي الضرورة والحاجة والحرج والعذر والإكراه. ولكن إذا نظرنا إلى كل منها وجدنا مختلفة قليلة بين هذه المصطلاحات، ونستطيع أن نستخدم لكل المصطلاحات في تركيب الكلمة ما تناسبها في معناها. في كتاب “الموسوعة الفقهية” بين المؤلف أن الحاجة هي ما يفتقر إليه من حيثُ التوسعة ورفع الضيق المؤدي – في الغالب – إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب. وأن الحاجة وإن كانت حالة جهد ومشقة فهي دون الضرورة ومرتبتها أدنى منها ولا يتأتى بفقدها الهلاك. ولهذا أن الحاجة والضرورة تتضمنان على المشقة فقط. والحاجة لا تصل إلى درجة الهلاك، وأما الضرورة تصل إلى درجة الهلاك. وأما الإكراه هو حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفاً به. وقد يؤدي الإكراه إلى الضرورة. والضرورات تبيح المحظورات” من القواعد المتفق عليها، وقد تكلم أهل العلم عليها كثيرًا، يقول الزركشي في المنثور في القواعد: “الضرورات تبيح المحظورات”؛ ومن ثم أبيحت الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غصّ ولم يجد غيرها، وأبيحت كلمة الكفر للمكره. وقال الإمام أبو اسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي في “الموافقات في أصول الشريعة”: “ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير”. وقال العز بن عبد السلام: “فالضرورات مناسبة لإباحة المحظور جلباً لمصالحها”. وقال قاعدة وهي “أن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه فإنه يأتي بما قدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه”، وقال: “وقد أمر الله تعالى بإقامة مصالح متجانسة وأخرج بعضها عن الأمر إما لمشقة ملابستها وإما لمفسدة تعارضها وزجر عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها عن الزجر إما لمشقة اجتنابها وإما لمصلحة تعارضها”. وقال ابن القيم الجوزية: “ومن قواعد الشرع الكلية أنه لا واجب مع عجز، ولا حرام مع ضرورة”.
وأظن -وليس كل الظن إثمٌ- أن الشيخ الأمين عندما أخذ مضطراً المواد التموينية من موفد مليشيا الدعم السريع، كان يُنزل في نفسه واقعة عمار بن ياسر مع معذبيه من المشركين. ففي حديثٍ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أخذ المشركون عماراً فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال فإن عادوا فعد”، وهو حديثٌ مرسلٌ ورجاله ثقات، أخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
ومن الضروري الإشارة هنا، إلى أن مسيد الشيخ الأمين كان وما زال مفتوحاً طوال أيام الحرب، لإطعام مرتاديه من الفقراء والمساكين وابن السبيل، وحتى من غيرهم. وأحسبُ أن هذا هو دور المسيد الديني والاجتماعي. فالمسيد يستمد رسالته ومقاصده من رسالة المسجد ومقاصده. والمعلوم أن المساجد بيوتُ الله، وأحبُّ البِقاع إليه، وقدْ أضافَها الله -عزَّ وجل- إلى نفسه، إضافةَ تعظيمٍ وتشريف؛ فقال: “وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا”.
أخلص إلى أنني أردتُ في هذه العُجالة، أن استعرض جوانب من هذه الحملة الشعواء التي شنها بعض الحاسدين والحاقدين على الشيخ الأمين ومسيده، مستغلين حضور وفد من مليشيا الدعم السريع إلى المسيد الذي يقع في دائرة سلطانهم المؤقت بإذن الله! وتناسى الذين يهاجمونه في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، ويشككون في وقوفه المعلن مع الجيش في هذه الحرب، إلا أنه أُضطر لقبول توزيع تلكم المواد التموينيه على الفقراء والمحتاجين، وهي من المؤشرات التي ينبغي ألا تغيب عننا معشر المعلقين والمحللين السياسيين، في تضعضع قوة مليشيا الدعم السريع – عسكرياً وسياسياً- فعسكرياً تواصل الهجوم المكثف على قواتهم، وما نشاهده من فرار مليشتهم، كأنها فرت من قسورة. أما الخسران السياسي، فصارت تترى عليهم الخُسارة تلو الخُسارة من الولايات المتحدة الأميركية والسعودية، وغيرهما من المنظومات الإقليمية والعالمية، وأخيراً وليس آخراً، مَنْ حسبتهم مليشيا الدعم السريع الحاضن السياسي والإعلامي لتمردهم على القوات المسلحة، حيثُ أدانتهم الحرية والتغيير -المركزي- إدانةً مباشرةً، لعلمها أنه لعاصم للقوات المسلحة من إنهاء التمرد! فأحسبهم قد تذكروا مصير كنعان بن نوح أو يام بن نوح عندما رفض نُصح والده النبي، بحجة أنه سيأوي إلى جبلٍ يعصمه من الماء! فاليوم لا عاصم للمتمردين وأعوانهم من الجيش السوداني!
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الشاعر العربي عمرو بن الأهتم المِنْقَري السعدي:
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ