رحلة الشقاء والتيه بقلم / ياسين إزاز
الموت … هي الحقيقة الوحيدة التي يترقبها الجميع متيقنين من قدومها، لكنها تفجعهم حين وقوعها. لأنهم دائما ليسوا مستعدين لملاقاة بارئهم.
في اليوم التالي كانت السماء كئيبة، ولونها مائل إلى القتامة قليلا. السحابة السوداء تجري بتثاقل نحو الغرب، وثمة وريقات تتطاير بغنج، يتابعها بتمعن من نافذة الممر المطلة على بهو المستشفى.
ليس ثمة هناك ما يدعو للقلق إلا القلق نفسه، ولا شيء مميتا سوى الموت. تلك الحقيقة التي ألفها الجميع، غير أنهم يتجاهلونها بمحض إرادتهم حتى يتسنى لهم ترف العيش الموهوم.
انتفض من جلسته، كمن تذكر لتوه شيئا بالغ الأهمية، وغادر قاصدا مكتب الطبيب. طرق الباب بأنامل مخضبة باليأس، وبعض من القنوط الذي ترجمه ارتجاف أطرافه. كأن ساقيه لا تقدران على حمله، استند على العمود الخشبي قُرب الباب، ثم عاود طرقه، ولكن بقوة هذه المرة.
سرق نظرات نحو الكرسي أمام طاولة الطبيب، قبل أن يشير الطبيب على موافقة طلبه بالجلوس بإشارة من يده اليمنى التي يحشر فيها القلم، الذي يلفظ سائل حبره الأخير، بين اصبعيه السبابة والتي تليها.
على طرف الكرسي جلس، ثم ما لبث بضع ثوان حتى بادر بالكلام. كان في فمه كلام محشور، يود لو يطلق العنان له حتى يهدأ قليلا، لكنه لم يقدر. حاول من جديد، فبدا له أنه أجاز في كلامه، غير أنه لم يخرج من فمه شيء سوى الفحيح.
ناوله الطبيب كأس ماء، وشرع في رفع كمه وتعديل البالطو الأبيض الناصع، ولم ينسَ أيضا تعديل نظارته بحكم العادة، ووجّهَ سؤاله بتردد:
“أنت لم تغادر منذ البارحة؟”
ثم يصمت الطبيب لبرهة قبل أن يردف كلامه:
“لابد أنك زوجها؟ صحيح؟ شاب أسمر مفتول العضلات، هكذا وصفوك حين سألت عنك البارحة.”
انحدرت آخر جغمة ماء نحو المعدة، وقد سُمع صوت ابتلاعها دون بذل أي جهد. ثم بتأنٍ أسقط الكأس قرب الملف الأخضر الذي كان يكتب الطبيب عليه ملاحظاته دون أن يبدو عليه أدنى اهتمام .
تنفس بعمق. أتبعها تنهيدة قبل أن يسقط جسده كله على الكرسي الذي يئن من ثقل وزن الشاب الأسمر المفتول العضلات، فجيب:
“نعم، أنا هو.”