منصة عطاءات السودان tender.sd عطاءات السودان
التقارير

غرق الطفل “المُغيرة” والجنوب سوداني “يل

الخرطوم : صديق رمضان

في هذا اليوم لم يكُن الزمان مثل بقية الأزمنة ولا المكان مثل بقية الأمكنة، فقد امتزج الفرح بالحزن،التشاؤم بالأمل، الأسى بالرضاء، والشمال بالجنوب.
بدأ صباح ذلك اليوم مثله وسائر الأيام الأولى من يناير الذي يذهب فيه السودانيين إلى أماكن الترفيه احتفاءا باعياد الاستقلال واليوم الأول من العام الجديد،مضت الساعات سريعة تحمل بين ثناياه الفرح والأطفال مثل الفراش يتقافزون ويضحكون ببراءة وهم يأملون في غدٍ أفضل من الحاضر البائس، في تلك الغابة التي تفصل بين ودالعشا والنيل الأزرق كان كل شئ يدعو للارتياح لأن أهل القرية وهم من أكثر الناس تهذيباً وكرماً ونُبلاً، تركوا هموهم واوجاعهم خلفهم وقرروا أن ينتزعوا لحظات فرح تخفف عليهم الألم وتجدد الأمل.
وهنا نذهب إلى ثلاثة مشاهد مُختلفة غير أن ثمة رابط بينها.. المشهد الأول لطفل صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره جميل المحيا، عذب الإبتسامة،وهو المُغيرة يلهو ويلعب مع أسرته.
المشهد الثاني الذي له ارتباط وثيق بالأول والد المُغيرة وهو الملازم أول شرطة “عثمان خلف الله” وفي ذات اللحظات كان يؤدي واجبه المهني على شاطئ النيل الأزرق بالقرب من مدينة الكاملين لحماية أرواح المواطنين الذين كانوا يحتفلون بذات المناسبة من الغرق.
المشهد الثالث لفتي لم يتجاوز الثامن عشر من عمره تقريباً ترتسم كل براءة الدنيا على وجهه النضر الذي يشبه الابنوس في جماله وشموخه، كان الجنوب سوداني “يل” يستبسل في مقاومة ظروف الحياة التي وضعته تحت وطأة العمل في كمينة طوب في ذات المكان الذي كان يلهو على مقربة منه الطفل المُغيرة.

وعندما قالت الأقدار كلمتها ابعدت “المُغيرة” عن أسرته لتمضي الأحداث مُتسارعة ويجد نفسه قد سقط في النيل من منطقة عالية “قيفة”،وذات الأقدار التي ساقت المُغيرة إلى الغرق دفعت الجنوب سوداني “يل” للانتباه ثم الركض بسرعة قصوي لإنقاذ المُغيرة وببسالة معهوده في أبناء الوطن الكبير، وبشجاعه تسري في الدماء السودانية شمالاً وجنوباً قفز إلى البحر غير عابئاً ولا مُكترثاً بالمجهول الذي ينتظره، فقد حدثته نفسه النقيه التي تفيض رحمه رغم صغر سنه بأن يتحرك لإنقاذ المُغيرة.

وبالفعل نجح في المرة الأولى حينما لحق به غير أن إرتفاع “القيفة” حال بينهما والوصول إلى شاطئ الأمان، ليدخلا في معركة البقاء وسعي “يل” وهو الأكبر سناً من “المُغيرة” ببضع سنوات من أجل الانتصار لغريزة الحياة، فقاوم، واستبسل،أظهر شجاعة تفوق سني عمره الغضة، وفي لحظات مضت عليهما بطيئة قال القدر كلمته بعد أن خارت قواهما وعجزا عن النجاة رغم بسالتهما ليفارقا الحياة معاً وكأنما لسان “المُغيرة” يردد “يل قل لاعاش من يفصلنا”،ولسان يل يردد “كل اجزاءه لنا وطن” في موقف أدمي القلوب قبل المآقي، لتعيش القرية الوادعة والجنيد عامة يوماً مؤلماً توشح فيه الجميع بالسواد.

لينتقل الحزن إلى الكاملين ففي تلك الاثناء كان والد الشهيد المُغيرة الملازم أول” عثمان خلف الله” يؤدي واجبه المُقدس في حماية الأرواح من الغرق ليصله نبأ وفاة صغيره و الشجاع “يل”، ورغم هول الفاجعة إلا أنه تماسك وعاد ادراجه سريعاً ليكون شاهداً على موقف آخر يؤكد أن الإنسانية نعمة ربانية يختص بها أصحاب القلوب الرحيمة والنقية.

فعلي شاطئ النيل وقفت أسرتي يل والمغيرة تنتظرا خروج الجثمانين، كان الحزن يمشي بينهما، فخرج جثمان الفارس الشجاع “يل” أولاً ورفضت أسرته التي حضرت من الجريف بالخرطوم أن تذهب لمواراته الثري قبل ظهور جثمان “المغيرة”، وهو الموقف الذي أبكي الجميع، و بدلاً عن مواساة أم يل الراكزة “ادور” فإنها سعت لتخفيف الحزن على والدة المُغيرة “إيمان على كرار” التي جسدت هي الأخرى الإيمان في أبهى صوره حينما تحلت بالصبر رغم الوجع.

لتتم بعد ذلك مواراة جثماني البطلين الثري في مكانين غير بعيدين فهذا في قرية ودالعشا وعلى بعد بضع كيلو مترات رقد “يل” بسلام في قبره ، ذهبا بجسديهما بعد أن كتبا قصة للتاريخ ستظل تذكرها الأجيال في شطري الوطن الكبير وتسردها في إعجاب لأن عنوانها العريض يكشف عن تجسيد للانسانية كما ينبغي أن تكون.

وبعد مرور ٣٦ يوماً أكتب ليس لتجديد الحزن لأننا نؤمن بقضاء الله وقدره بل من أجل توثيق المعركة الملحمية التي جمعت بين “يل” و”المغيرة” وانتقلت تعارفاً وتواصلاً بين اسرتيهما، أجدد التعازي لاسرتي يل والمغيرة ونسأل الله أن يلهمهما الصبر ويعوضهما.

ملحوظة
بحثت عن صورة للشجاع “يل” ولم أجدها وأتمنى نشرها في يومٍ ما

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى