منصة عطاءات السودان tender.sd عطاءات السودان
منوعات

الصدفة وحدها وضعتني بينهم… بقلم / هاشم محمود

فقد كنت متسامحًا للغاية، غير مُلمٍّ بتفاصيل التناقضات المجتمعة لأبناء جلدتي، أو تلك التي خلَّفها الإنجليز، بعد العشر العجاف.
الكل مُتحفظ من الآخر، يسأل عن أدق التفاصيل؛ مكان الميلاد ومسقط الرأس؛ حيث كنت لا أبالي.
تنقلتُ بين هذه الأمواج العاتية من الخلافات؛ عرقية كانت أو مناطقية، من سكن لآخر، ومجموعة لأخرى، الكل يمجد تاريخه، ويمحو غيره، الكل يعتز بمنطقته وقبيلته، فمن سكنٍ في بني محمود إلى الغانم القديم، محطات مررتُ فيها بالكثير والمثير، ودليلي في ذلك قلبي، ليس سواه، وأخيرًا انتقلتُ إلى بني عمران؛ حيث المنزل الكبير، ومجموعة مختلفة من أعراق وخلفيات، ولا حديث يدور بينهم في أوقات الفراغ إلا أنا، وأنت، ونحن، وهُم.
ماذا الذي يجري بقومي؟ إلى أين سوف نصل؟
إنها مُخلفات المستعمرة، وعُقدة الغربة، وإحساس غريب.
وفي مساءِ كل خميس ألتقي بمجموعات أخرى بحي الريان، وسط الدوحة، وقتُها عبارةٌ عن مؤتمر جامع، فالقادمون من الشمال، وأقصى الغرب، لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، والحوارات لا تختلف كثيرًا سوى بعض التفاصيل.
كوَّنتُ مجموعةً من الأصدقاء، من مختلف أنحاء الوطن؛ من أبناء الداخل والشتات، كلٌّ يحمل ثقافةً تختلف عن الآخر، وكلٌّ يسخر من الآخر، فأهل الداخل يُحبون المناطقية بصورة جنونية، ويستهزءون بمناطق العبور، التي كان حلمهم الأول الوصول إليها، وأبناء الشتات يعتبرون أبناء الداخل امتدادًا لثقافة واحدة، ويعشقون القبيلية بطريقة لا مثيل لها.
وهنا عرفتُ أن ثمَّة فجوة كبيرة بين أبناءِ الوطن، يجلسون في حلقات، وبينهم مساحة صغير، يتبادلون الاهتمامات، وكلٌّ يذكر محاسن منطقته، أو قبيلته؛ بل يتبنى دورها، ويُحدد رموزها، ومنطقة العبور قد انتهت صلاحيتُها.

عشتُ لحظات بين ضحك وحزن، يصعب وصفها، انتابني شعور بالحزن على أجيال تاهت وسط غياب الوعي.
فالتفتُّ إلى مجموعة الوسط “الأغلبية الصامتة”؛ كعلاي من أبناء الداخل، وعركوكباي من الشتات، وأبناء قبيلة واحدة،
في نهاية كل أسبوع يأتون إلى منطقة الريان؛ حيث الموتمر الأسبوعي، كلٌّ يذهب إلى مجموعته يتسامرون، وفي المساء يعودون، وكلٌّ يحمل ذكرى من تلك الجلسة.
كعلاي يتهم ابن عمه بالقسوة علي أبناء الداخل، ولكنه يجب أن يُحسن الظن بهم، وألا يستعجل في الحكم عليهم، بينما عركوكباي يعتبر رأيه هذا من المُسلَّمات، وأنهم انتهازيون وصولويون لا يأتي منهم خير، ويكيل له التهم.
تتعالى أصواتهم، مِما يضطر أحد أبناء المنطقة الوسطى للفصل بينهم.
يستمع لكل منهم بعناية، ثم ينفجر بالضحك، يتأمل، يشرد بعيدًا، مُحدقًا بعينيه، نظرات إلى الأعلى، ثم أسفل قدميه، والدموع تملأ عينيه، وبعد تنهيدة طويلة، يعود إليهم.

في الأصل أنتم أبناء عمومة، وهذه صلة رحم، ولكنكما تعيشان في بيئة مختلفة، فالإنسان دومًا يحنُّ إلى مراتع الصبى، وذكرياته، وهنا تُبنى شخصيته، ولكل مجتمع خصائصه الاجتماعية والثقافية، التي توثر فيه.
فإن كان أبناء الداخل ناكري الجميل، فإن أبناء الشتات يحملون صفة الخداع، وإذا كان أبناء الشتات مراوغين، فإن أبناء الداخل غير جادين.

وعمل على تقريب المسافة بينهم، من أجل المصالحة، ثم أردف قائلًا: هل تعلمون أني أعاني من كلا المجموعتين؟
بحكم عَيشي بالداخل فترة، وكذلك بالشتات، وإن من يسيئون لي اليوم ليس مجموعة كعلاي أو عركوكباي، وإنما كل من أحسنت إليهم، وقدمت لهم الجميل.
عزاءي في ذلك أني عملت لوجه الله، وليس لأي مقابل آخر، ولا أنسى أن لكل قاعدة شواذ، ففي الطرفين قِلة تحمل الوفاء والإخلاص.

وقف كعلاي وعركوكباي إجلالًا واحترامًا لابن المنطقة الوسطي، حتي عانقا بعضهما البعض، وخرجتُ بحكمة؛ أن صلة الرحم أهم مما يتشاجران عليه، فهي التي يحاسبان عليها، والباقي ينتهي بانتهاء الجلسات، وقررا أن يصنعا معروفًا، دون انتظار مقابلٍ، وليكن ما يكن، وبالإحسان تدوم المودة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى