امام: بحصافة البرهان.. وفي انتظار غودو إمام محمد إمام
المبادرة المصرية لحل الأزمة السياسية السودانية الراهنة، ما زالت تكتسب زخماً وسط المنظومات السياسية والمكونات الحزبية والتيارات الشبابية السودانية، ولم تعلن منظومة سياسية رفضها للمبادرة المصرية، سوى قوى الحرية والتغيير المركزي وتوابعهم، وحتى هؤلاء التوابع انضمامهم للاتفاق الإطاري، كان سبباً في انشقاق تنظيماتهم، والخُلف بين بعض قياداتهم!
قد يتساءل البعض عن مغزى الاستمرارية في الكتابة عن المبادرة المصرية لحل الأزمة السودانية، فأُجيب أنها حملة إعلامية، والحملة الإعلامية تُعرف عند خبراء الإعلام، بأنها تلكم الجهود المنظَّمة التي يقوم بها المختصون في العمل الإعلامي بوسائله المختلفة، بهدف تحقيق غاية معينة أو مجموعة من الغايات والأهداف المحددة سلفاً، تُخاطب فئة معينة بلغتها التي تعرفها، ومن خلال أُطر ثقافية تعيش من خلالها وذلك لفترة زمنية محددة، كما تعتمد على تحديد الجمهور المستهدف تحديداً. ووسائل الإعلام منوطٌ بها تعبئة الرأي العام تجاه قضية أو قضايا معينة أو محددة.
The media should galvanise the public opinion towards a certain issues.
فلا غروّ أن استعرضتُ في هذه العُجالة تباعاً هذه الأيام، بعضاً من التطورات التي شهدتها المبادرة المصرية لحل الأزمة السياسية السودانية الراهنة!
وأحسبُ أنه على الرغم من التطورات المتلاحقة المؤيدة للمبادرة المصرية، ما زال الكثير من السودانيين في انتظار معرفة تفاصيل بنودها، بعد الاطمئنان على أنها حوار سوداني – سوداني يحدد أجنداته السودانيين أنفسهم. ومع علمهم “الشيطانُ يكمن في التفاصيل”! ولمَّا كانت القاهرة عليمة بتضاريس السياسة السودانية وتشعباتها، حرصتْ حرصاً شديداً، أثناء زيارة اللواء عباس كامل رئيس الاستخبارات العامة المصرية إلى الخرطوم في مطلع يناير (كانون الثاني) 2023، على تأكيد أن ما طرحته من مبادرة تهدف إلى أن تكون هناك مشاركة واسعة للمنظومات السياسية، والمكونات الحزبية السودانية، وصولاً إلى الاتفاق السياسي النهائي الذي يحدد معالم الفترة الانتقالية، واستكمال مؤسساتها، وميقاتها الزماني المرتقب! لكل هذه الأسباب مجتمعة، ولجت القاهرة دهاليز السياسة السودانية، حيثُ دعت إلى استضافة الفرقاء السودانيين في ورشة عمل في الأسبوع الأول من فبراير (شباط) المقبل، بهدف إقامة حوار سوداني – سوداني، لتقريب وجهات النظر بين أطراف الأزمة السودانية، على أمل أن يحقق ذاكم الحوار التوافق الوطني السوداني مَنْ أرض الكِنانة.
ومن المستبعد أن تأتي مصر بمبادرتها لحل الأزمة السودانية، في مسعىً لعرقلة مسارات البحث عن تسوية سودانية، بدعم قوى أجنبية – ترغيباً وترهيباً – من خلال الاتفاق الإطاري الذي عده الكثيرون صِناعة أجنبية، وسُيرت ضده مواكب الكرامة، والوقفات الاحتجاجية، احتجاجاً واعتراضاً على تغول القوى الأجنبية على الشأن السياسي السوداني الراهن، لأن استقرار الأوضاع في السودان يهم المصريين، مثل ما يهم السودانيين. فالمبادرة المصرية حتى قبل أن تتضح حقيقة بنودها، وجدت قبولاً واسعاً من المنظومات السياسية، والمكونات الحزبية، التي عارضت بضراوة الاتفاق الإطاري، واعتبرته اتفاقاً إقصائياً، يُمَكِن لقوى ضعيفة الشعبية، وفشلت فشلاً ذريعاً في تجربتها السابقة المريرة، حكم السودان، وأن قياداتها أقرب إلى أن تُوصف بالناشطين، من أن تُعد من السياسيين! فالمبادرة المصرية، بدأت تجد ضوءاً أخضرَ من القوى الدولية، بينما يفقد الاتفاق الإطاري ذاكم الدعم بصورة مستمرة، فها هو السفير الأميركي لدى السودان يعلن سحب دعمه للاتفاق الإطاري. ومن قبله أبدى فولكر بيريتس المبعوث الأممي قدراً من الاستياء على قلة شعبية قوى الحرية والتغيير المركزي، وضعفها في الشارع، وعجزها من الحصول على تأييد شعبي للاتفاق الإطاري!
ويعجب الكثيرون من الجُرأة التي تميز بعض قيادات ثلاثية الحرية والتغيير المركزي في تصريحاتهم الصحافية، وأحاديثهم الإعلامية، التي يعلنون فيها رغباتهم وأمانيهم، كأنها واقعٌ يحدث غداً، إن لم يكن قد حدث اليوم! يعيش أولئك في ما يُعرف بال Wishful Thinking (التفكير الرغائي)! وفات عليهم أن المكون العسكري ذو الشوكة والقوة والنفوذ في الراهن السياسي السوداني، بعيد عنهم في مواقفه، يمد لهم حبائل الصبر مدّاً إلى حين وقوع الواقعة، وما أدراك ما الواقعة!
ولم يعلن حتى اليوم، المكون العسكري رأيه القاطع، والمرجوح من القول، في المبادرة المصرية لحل الأزمة السياسية السودانية، قبولاً أو اعتذاراً، ولا أقول رفضاً، لأن العسكر أكثر دربةً وحصافةً في التعامل مع دول الخارج، ليس كثلاثية الحرية والتغيير المركزي، ولكن الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن رئيس المجلس السيادي الانتقالي، كان وما زال يدعو إلى ما دعت إليه المبادرة المصرية في ما يتعلق بتوسيع المشاركة، ونبذ الإقصاء والعزل!
والجميع في انتظار غودو أي في انتظار البرهان! قبل الاسترسال في موقف الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن رئيس المجلس السيادي الانتقالي، من المبادرة المصرية، ينبغي أن نبسط القول بإيجازٍ غير مخلٍّ عن مسرحية “في انتظار غودو” وهي بالفرنسية En attendant Godo، لإحداث قدرٍ من المقاربة وليس المقارنة، بين انتظار غودو وانتظار البرهان! وكتب تلكم المسرحية الكاتب الإيرلندي صمويل بيكت. وقد كتبها باللغة الفرنسية أول مرة، ثم تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية.
وتدور أحداث المسرحية حول رجلين يدعيان فلاديمير واستراغون ينتظران شخصاً يدعى “غودو” لا يصل أبداً. وفي أثناء انتظارهما، ينخرطان في مجموعة متنوعة من المحاورات ويقابلان ثلاث شخصيات أخرى. في انتظار غودو، هي ترجمة بيكيت لمسرحيته الأصلية باللغة الفرنسية، وهي مترجمة بالإنجليزية فقط “ملهاة مأساوية من فصلين”. وألّف بيكت النسخة الفرنسية الأصلية ما بين 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1948 و29 يناير (كانون الثاني) 1949. وكان افتتاح أول عرض في 5 يناير 1953 في مسرح بابلون من إخراج روجر بلين بباريس. عُرضت النسخة الإنجليزية لأول مرة في لندن عام 1955. وفي استطلاع للرأي، أجراه المسرح الوطني الملكي البريطاني عام 1990، جرى التصويت على أنها أهم مسرحية في القرن العشرين باللغة الإنجليزية.
وفي رأيي الخاص، أن غودو بكيت لا يصل أبداً، ولكن البرهان أحسبُه بعد صبرٍ ولأيٍ وقليل ترددٍ سيصل إلى قبول المبادرة المصرية! فالبرهان لدى عارفيه لا يعيل صبره سريعاً، فهو يتعامل مع كل الأمور -عدا العسكرية- بسياسة Wait and See Policy، بمعنى:
a wait-and-see situation is one in which someone is not sure what to do and decides to wait before taking any action:.
وهي سياسة الانتظار والترقب، بمعنى انتظر وترقب قبل أن تتصرف أو تكوِّن رأياً! وأحسبُه أيضاً سبق وأن جرب هذه السياسة مع قوى الحرية والتغيير لبضع سنين، ولمَّا بلغت مغاضبة الناس عليهم شأواً عظيماً انقض عليهم في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021, فسماها وأنصاره “تصحيح المسار”، بينما سمتها قوى الحرية والتغيير وغيرها “انقلاب”! ولكن صبره ذاكم كلف البلاد نصباً، والعباد رهقاً! فالمأمول ألا يهتدي البرهان في انتظاره بهدي غودو بكيت!
أخلص إلى أن الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، سعى جاهداً لتقريب شُقة الخلاف بين أطراف الحرية والتغيير – المجلس المركزي والحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية، ولكنه عندما أدرك أن الذي بينهما خرابٌ، وليس المأمول فيه عمارٌ، أخطرهما بانسحابه من الوساطة التي كان يقودها من أجل إصلاح البين بينهما، بهدف الوصول إلى توافق وطني. وحسب بعض المصادر أن البرهان جمع أطراف الحرية والتغيير وأخبرها بانسحابه من الوساطة، مُشيراً إلى أن الجيش سيظل متمسكاً بالخروج من المشهد السياسي كلياً. وامتنع البرهان عن الكشف لسائليه عن مستقبل العملية السياسية في ظل حالة الانقسام في المشهد السياسي السوداني الراهن!
ومن المهم، ألا يطيل صبر البرهان قبل إعلان موقفه من المبادرة المصرية، ويعيل صبرنا جميعاً، ويتدهور حال الوطن ومواطنيه إلى دركٍ سحيق! وتجدنا دون وعيٍ منا، نردد للبرهان، ما قاله الشاعر إسماعيل صبري باشا:
طرقتُ الباب حتى كل متني
فلما كل متني كلمتني
فقالت: يا سماعيل صبرا
فقلتُ: يا أسما عيل صبري
فقد عيل صبر السودانيين، فهم يُريدون حلاً، من خلال مبادرة تقودهم إلى توافقٍ وطنيٍ، ولا بأس أنها جاءت من مِصر أخت بلادي، لتنقلهم إلى مرحلة الاستقرار السياسي، ومن ثَمَّ الازدهار الاقتصادي، بعد أن وجدوا في وضعهم الراهن نصباً ورهقاً!
فها نحن جميعاً، عدا ثُلة من ثلاثية الحرية والتغيير، وبعضهم يعُد العدة للحاق بسفينة المبادرة المصرية! في انتظار الرئيس البرهان، وليس في انتظار غودو بكيت!
إعلان موقفه من المبادرة المصرية، ويعيل صبرنا جميعاً، ويتدهور حال الوطن ومواطنيه إلى دركٍ سحيق! وتجدنا دون وعيٍ منا، نردد للبرهان، ما قاله الشاعر إسماعيل صبري باشا:
طرقتُ الباب حتى كل متني
فلما كل متني كلمتني
فقالت: يا سماعيل صبرا
فقلتُ: يا أسما عيل صبري
فقد عيل صبر السودانيين، فهم يُريدون حلاً، من خلال مبادرة تقودهم إلى توافقٍ وطنيٍ، ولا بأس أنها جاءت من مِصر أخت بلادي، لتنقلهم إلى مرحلة الاستقرار السياسي، ومن ثَمَّ الازدهار الاقتصادي، بعد أن وجدوا في وضعهم الراهن نصباً ورهقاً!
فها نحن جميعاً، عدا ثُلة من ثلاثية الحرية والتغيير، وبعضهم يعُد العدة للحاق بسفينة المبادرة المصرية! في انتظار الرئيس البرهان، وليس في انتظار غودو بكيت!