حسن فضل المولى يكتب : التيجاني حاج موسى ضُل الضُحى الرَامِي
قال لي أحد الأصدقاء :
( كنت مرة بصحبة ( التيجاني حاج موسى ) ، ولما توسطنا شارع العرضة، سلم على امرأة بطريقة استوقفتني ، وعندما سألته عن من تكون هذه ؟ قال لي : (( دي جايي تفتش الماضي ))، ولم يزد ، وأنا عرفت فلزمت الصمت ) ..
( وجايي تفتش الماضي
خلاص الماضي ولى زمان
وجفت مقلتي الباكية
ونامت من سنين أحزان
وجايي تفتش الماضي ؟ )
لا أجد تعبيراً أبلغ من هذا ، يصف حالةَ من أدار ظهره وتولى ، بعد أن أُصِيبَ في مَقْتل ، وتجرع كؤوس الهِجران والتجافي والنُكران ، ليقطع على نفسه أي سبيل للعودة ، مستجيباً لعزة نفسه التي تأبى عليه أن يسلم قلبه مرة ثانية ..
( ولو رجع الحنين وعاود
وليك من تاني وداني
ولو مكتوب لي تاني أحب
بحب إنسان يكون تاني )
ويذهب أبعد من ذلك عندما يمضي ، مكسور الجناح ، مبدياً من الحسرة ما يحرق الحشا و يُذيب الأكباد ..
( بعدما فات الأوان
الليلة جايي بتعتذر
تَرَجِع أيامنا الزمان
من وين أجيب ليك العمر ؟ )
هذا هو( التيجاني حاج موسى ) ، عندما يُدْبِرُ و ينقلب ، بعد أن ( يضوق ) المر ، فيصدر عنه من الكلام ماهو أشبه بالحِمَمِ الحارقة..
ولا أرى في ذلك مايعيب أو يشين
إنها ( ردود أفعال ) الأوفياء الأنقياء ،
الذين يُقْبِلون بصدق وإخلاص ..
ولا يَرضَوْن أن يُضاموا في مشاعرهم ،،
خاصة عندما يكون الفعلُ بشعاً مُسْتَقْبَحاً مذموماً ..
لكن ( التيجاني ) الذي أعرفه ، أجد أن القسوة ليست من طبعه ، ولا التَشَّفِي ..
فهو ( حِنَيِّن ) ..
ولووووف ..
و مسامح ..
( حبايبنا ..
تغلطوا إنتو ونسامح
مابنقدر نخاصمكم
ما أصلو الهوى الجامح
بنسينا الخصام كلو
ويهون ظلم الهوى وذلو
والضقناهو من مرو
لما عيونكم الحلوين تصابحنا
نرجع نحن مجبورين نسامحكم
حبايبنا .. )
ومهما يتخذ من مواقف ،تحت وطأة التَجَنِّي و الظلم و الحرمان ، فإنه لايصمد طويلا ، وتجده ينهار ويرفع ( الراية البيضاء ) ، أمام دمعة طافرة ، وطرْفٍ نعسان ، و مبسمٍ ريان ..
( أقول أصبر على الحرمان
أقول أنساك لابد
أشوف بس طرفك النعسان
تخونى القوة والشدة ) ..
وهاك يا غُنَى ، و يا بكا ..
( من بعدِك إنتِ يعيش منو
ومين تاني مين يتمني العمر ) ..
ويسترسل في المناجاة ..
( كلمني ياحلو العيون
حيرني صمتك ياحنون ) ..
ويمضي كاشفاً عن حالة من الملازمة والتعلق ، والإقبال ، وكل ألوان وأشكال ( التعهدات ) ..
( إذا الخاطر سرح عنك
تأكد انو راح ليكا ..
وهوَّم فى رُبى الأحلام
قريب منك
سقت غيماتو واديكا ..
واذ خليتنى فى ظنك
بتلقى الروح تهيم بيكا )
لقد ضمني و ( التيجاني ) مكان عمل واحد ، لسنين عددا ، في تلفزيون السودان ..
كنا متجاورين..
نتآذر ..
ونَأْنَسُ إلى بعض ..
و نتشاطر ( السندوتش ) ..
ونتبادل ( التعليق ) والنظرات ، إذا عَبَرَت أجواءنا ( فَرَاشَةٌ ) أو ( طيَّاره ) ..
و يُطربني وهو ( يُباصِرُ ) الغناء ، وكنت أقول له : ( والله يا أستاذ لولا ( الغِلاف ) ترباس مايحصلك !! ): فيقول لي ضاحكاً 😞 أمشي ياحاقد ) ..
وتجده وقتما تطلبه أو تحتاجه ..
وكنت لا أراه إلا وهو في حالة رضى ، وطمأنينة ، وإنجذاب عاطفي ..
و لا تعتريه الوحشه ، و لا يغشاه الكدر ، إلا عندما يفتقد حبيباً ،،عندها يَرِق ويتضعضع ( و يَنْدَلِقْ ) ..
( واحشني
واحشني يا الخليت ملامحك
في حياتي ..
واحشني يا الرسيت مراسيك
جوه ذاتي ..
إلا باكر لما ترجع
أنا بحكي ليك عن الحصل ..
وعن بُعد المسافة وقربها ..
ولمان يفارق زول عيون
غاليات عليهو كتير خلاص وبحبها ..
والله أحكام ياقدر
والله أحكام يامسافة
وياسفر .. )
يَزِينه حياءٌ ، وأدبٌ ، وتَرَفُعٌ جميل ..
لا يقتحم أو يتسور ..
ويتوسل لحاجته بلطيفِ القولِ وأرقِه
حتى وهو يسترق النظر
( أعذريني
لو عيوني … غصب عني
وقفوا في عيونك شوية ..
وسامحيني لو مشاعري
فاتوا مني وغازلوكِ بحسن نية ..
شايلة في عيونك شقايا
أرحميني وارْتِي ليا ..
ياملاذي
ويا خلاصي
ويا يقيني .. )
و ( التيجاني ) عندما يجلس إليك ،، يدنو منك ، و يخاطبك بِحِنِيَّة ، وبصوت فيه من الإنفعال ، والدفء ، والمودة ، ما يُصَوِّر لك مشاعرَه تجاهك، وكأنك تراها أمامك ترقص وتغني وتبتهج ..
هذا حالُهُ في كل أطواره ..
حتى مع من جمعه مَجْلِسٌ لأول مرة ..
فمابالك عندما يجالس صديقاً ، أو من يهوى ..
تجده في حالة تَبَتُل واستغراق ..
( معزورين ..
تعزرونى لانو الما سقا الياسمين
ما بعرف غلاوة الند
ولا بعرف نداوة خد
ولا بعرف كلام العين
ومعزورين ..
أريتكم مرة شفتونى
وبينى وبينو بس خطوات
زى عابد وقف بِيَأَدى فى صلوات ..
وزى والد همس لى جناهو بى دعوات
قولو على لو قايلين ..
معزورين
وما عارفين
لانو الماسقا الياسمين
ما بعرف غلاوة الند
ولا بعرف نداوة خد
وما بعرف كلام العين ..
معزورين .. )
زول ( سمح ) ..
سماحةُ طبعٍ و طويةٍ
يألفُ المكانَ
ويألفُهُ المكانُ
فإذا جاءك يطيب له المقام ، فيَمْكُث معك ماشاء له المُكثُ ، وما رأيتُه يوماً يستعْجِلُ الإنصراف ، بل يتمهل حتى تظن أنه لن ينصرف ، فلا تستثقله ، بل تستبقيه ، لترتوي من ظرفه ، و حكاويه ، وعذب حديثه الذي لا يمل ..
إنسان بسيط ..
غير مُثقل بزينةِ الحياة الدنيا ..
في خُلُقِه كثيرٌ من زُهدٍ مُتَأصِل ، لا تُخْطِئه العين ، إذ أنني لم أره متكالباً ،
أو متهافتاً ، أو مُلْحِفاً في الطلب والسؤال ..
يرضى بالقليل في كل عَرَض وشأن ..
حتى وهو يقاسي الحرمان ، ويتلهف للقاء عابر ..
( وحات عمراً قضيتو معاك
محال عن ريدك ارتد
وراجي العين تلاقي العين
واحضن إيدك البضة
وأهي الأيام بتتعدى
ونتعاتب ونرجع تاني لا بد ) ..
و ها هو بعد إنتظار وضنى وسهر ليالي ،، يكتفي من الحبيب بالعين تلاقي العين ، ويلمس إيدو البضة ، ( بس كِدَه ) وينقلب شاكراً حامداً راضياً ..
لا يريد ، ولا يطمع في أكثر من ذلك ..
وهو ماتُقِّرُه الفطرة السليمة ،والطبع القويم ، والنازِعةُ المسؤولة ..
ويختزن من ( اليقين ) ، ماتَقَرُ به العين
و يطيب الفؤاد ..
(الراح منى يا دنيا .. خلاص شيليهو .. شيليهو
والجبتيهو يا دنيا … معاي خليهو .. خليهو ) ..
ومعاناة ( التيجاني ) مُشَاعةٌ ، لا أحد إلا ويجد نَفْسَه شريكاً له فيها ، يقاسمه اللوعه ،
أطراف النهار ، وفي ( عز الليل ) ..
( ساعة النسمة ترتاح
على هدب الدغش و تنوم
أنا مساهر
هَدَّ الحيل
غرامك و اجترار الذكرى
و طيفك بي خيالي يحوم
أنا مساهر..
انا و الليل و مُرّ جفاك
مساهرين ..
نحكي للأفلاك
مساهرين ..
لا خلصت حكاوينا
لا لقينا البداوينا
يا مشهيني طعم النوم
و طيفك بي خيالي يحوم
يا هاجر ..
سنين مرت و مروا سنين ) ..
ولما كنت قد ذكرت أن ( التيجاني ) حِنَيِّن ، فالذي يصدقني ، أنك قل أن تجد كلماتٍ مفعمةٍ بالحب والإمتنان ، تعبر عن مشاعرك تجاه أمك ، تضاهي ما كتب ..
( أمي الله يسلمك
ويديكِ لي طول العمر
وفي الدنيا يوم ما يألمك ) ..
وكذلك ارتباطه بي ( نَدّويَة )..
وكيف أنه لا يري الحياة والأحياء إلا
من خلالها ، وما أن يذكرها ، حتى تراها طالعةً منه ، كما الشعاع ..
إخلاصٌ مارأيتُ له مثيلاً ..
و تراه منخرطاً وسط الأطفال ،،مُلاطفاً ومُلاعباً ، ويركض معهم يطارد اللعبة ، ويُشَيِّد بيوت الرمل ، ويَشْغَب كما يشغبون ..
( شوفو دنيتنا الجميلة
بوديانها وصحاريها ونخيلها
بأنهارها وباشجارها الظليلة
ماهى دنيتنا الجميلة
الشمس كل يوم بتطلع
أصلو ما اتاخر شروقها
فى العشية تسيبنا تغرب
روعة سبحانو البسوقها
ماهى دنيتنا الجميلة ) ..
و ( التيجاني ) رقيق ، ورشيق ، وأنيق ..
وحبووووب ..
ومُبارك ..
يكتفي من الطعام بما يُقِيِم الأَوَدَ ..
وهو ( نباتي ) ..
إذ أنه لا يقرب ( اللحوم ) ..
كل أنواع ( اللحوم ) ..
لذا تجده خفيف الظل ، رائق المزاج ،
عالي الهمة ، قوي الذاكرة ، كثير النشاط ، متدفق العواطف ..
ذلك أن الذين يُكْثِرون من إلتهام ( اللحوم ) ، تجد الواحد فيهم كزّ الطبع غليظه .. إلا من رحم ربك ..
فثِقْ يا ( تيجاني ) .. أنك لست وحدك ، من زرع ، وغرس ، ووهب الروح والمُقَل ، فكان حصاده العشم ، بل صدًا وإعراضا ، إن لم يكن جحوداً ونُكراناً وأذى ..
فكُلُنا في الهمِ شرقُ ..
وكلنا في العذاب ( تيجاني ) ..
وها نحن نَتَعَزّى بك ، و معك ، ياسيد ( المُعَذَبِيِن )..
( ليه كــــــــــــل العذاب ليه كل الألم
بزرع في المحبة وحصادي العشم ) ..
وإذا كان كثير من الشعراء يتبعهم الغاوون ،،
وتراهم في كل واد يهيمون ،،
ويقولون مالا يفعلون ،،
فإن التيجاني تَلْمَسُ في شعره الصدق ، والمعايشة ،، و أغلب قصائده ، تشكل مرآة يتجلى من خلالها هوَ ، وتعكس حقيقة معدنه ، كما يعكس النجومَ الماء ُ ..
وقد جاء في ( عيون الأخبار ) ، أن الشيئ يَتَغَلْغَلُ في مَعْدَنِه ، ويَحِّنُ إلى عُنْصُرِه ، فإذا صادف مَنْبِتَه أو مَنْبَته، ولُزَّ في مَغْرَسِهِ ، ضرب بعِرْقِهِ ، وسمَقَ بِفَرْعِه ، وتَمَكَّن تَمَكُّن الإِقامةِ ، وثَبَتَ ثبات الطبيعه ..
وهكذا ( التيجاني ) ..
لذا تجدني وأنا أتحدث عنه ، أتكئ على كلماته ، والتي هي خير تُرْجُمان عن شخصيته وتفرده ، مما سهل علي
تقديم هذه اللمحة العَجْلى عن الشاعر ( التيجاني ود دار السلام ) ..
وهي لمحةٌ كمن يغترف بيديه من نبعٍ
مِدرار ، كلما رشف ابتغى المزيد ، و لم يَنْقُص من النبع شيئاً ..إذ أن هناك جوانب مهمة تُسهم في بناء شخصية شاعرنا الفذ من نزوع وطني خالص ، و جهد إنساني نبيل ، لم تستوعبها هذه الإضاءة المتواضعة ..
فيا مظاليم الهوى ..
هاكم في الختام هذه التباريح ،،
وهي تباريح ليس منا ، إلا وقد تجرع منها نصيباً مُقَدَّراً..
( ده الجانى منك ومن تباريح الهوى ،
وصفو بصعب يا جميل
وبعدت عنك ، ولما طال بى النوى ،
بقى لى أسيبك مستحيل ،
تبقى سيرتك هى الكلام
وتبقى صورتك هى الرؤى الحلوة البعيشا
فى صحوتى ، او حتى فى عز المنام
ويبقى اسمك هو الغنا
هو البخفف لى عذابات الضنى
ما الشفتو منك يا منى الروح يا أنا ،
وصفو بصعب يا جميل ….
وبعدت عنك …. ولما طال بى النوى
بقى لى أسيبك مستحيل
بشكى ليكم يا مظاليم الهوى
أصلى مجروح مرتين ،
يمكن القى الزييي فيكم
ضاق جراح الحب ومتعذب سنين
ويمكن القى وصفة تنفع ..
ولا يمكن القى حاجة تخفف الجرح القديم ..
حاجة تشفع ..
ده الجاني منك ومن تباريح الهوى
وصفو بصعب يا جميل
وبعدت عنك ، ولما طال بي النوى
بقى لى أسيبك مستحيل ) ..
حفظك الله عزيزنا ، من كل مكروه
وجعلك بلسماً تشفي الجروح ،
وتُطْفئ لظى الآهات الحزينة ..
و السلام ..
أم درمان .. أكتوبر ٢٠٢٠