بحصافة الزين حامد في رحاب الرحمن الماجد إمام محمد إمام
غيب الموتُ، الذي مُدركنا أينما كنا، إذ لا فِرار لنا منه، ولا نجد منه مهرباً، فهو القضاء المبرم (الموت)، سواء أدركنا بغتةً (موت الفُجاءة) أو بقضاءٍ مؤجلٍ (المرض). فكل نفسٍ ذائقة الموت، تصديقاً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”. بالأمس القريب، ودعنا أحد أساتذتنا الأجلاء، الذي غادر دار الفناء، ماضياً إلى دنيا البقاء، في رحاب الرحمن الماجد -تقدست أسماؤه، وعلت صفاته- المعلم العظيم، والمربي الفخيم، الأستاذ الزين حامد مدير مدرسة كسلا الثانوية في عهدها الزاهر،إبان عهدنا الطالبي فيها، كان أستاذنا الراحل يستمد من اسمه السماحة والزين. كان هيناً تستخفه بسمة طلابه، وقوياً يهابه المهرجلون والمشاغبون، وكأن الشاعر السوداني إدريس محمد جماع عناه حين قال:
حاسر الرأس عند كل جمال
مستشفّ من كل شيء جمالا
هين تستخفه بسمةُ الطفل
قويٌّ يصارع الأجيالا
كان فقد أستاذنا السمح الزين، بعد صراعٍ مع المرض، أوهن الجسم، ولكنه لم يُفتر العزيمة والإرادة، فقداً عظيماً، ومُصاباً جللاً، لعارفي علمه وفضله في مدرسة كسلا الثانوية، وغيرها من معتركات التعليم والسياسة التي أبلي فيها بلاءً حسناً. كان زيننا معلماً حازماً، ومربياً فاضلاً، تخرج على يديه آلاف الطلاب -ذكرناً وإناثاً- إذ كان مديراً لمدرسة كسلا الثانوية بنين لسنين عدداً، ثم مديراً لمدرسة كسلا الثانوية بنات لبضعة أعوام. ولمَّا ترجل من صهوة التعلم والتعليم، لم يركن إلى دعة الراحة بعد سنوات الرهق والشقاء، بل امتطى صهوة السياسة، وخاض غمارها من الدائرة الغربية لمدينة كسلا في الديمقراطية الثالثة عن الحزب الاتحادي الديمقراطي، قبل أن يصبح الحزبُ أصلاً وفروعاً. وانتُخب رائداً للجمعية التأسيسية (البرلمان). وعمِل ملحقاً ثقافياً لدى سفارتنا في موسكو، وكان أباً حقيقياً، وراعياً عطوفاً لكافة الطلاب الذين درسوا في روسيا.
فالموتُ، بحقٍ وحقيقةٍ يُدركنا مهما نسأَ الله تعالى في أعمارنا، وسلم أبداننا من العلل والمؤجلات (الأمراض)، تأكيداً لقول الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سلمى:
كلّ ابن أُنثَى وإن طالتْ سلامتُه يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
فإذا حملت إلى القبورِ جنازةٍ فاعلم بأنّك بعدها محمولُ
عرفتُ الأستاذ الراحل الزين حامد معرفة الأستاذ والطالب، ثم توثقت هذه العلائق، عندما أصبحتُ أحد قيادييّ اتحاد طلاب مدرسة كسلا الثانوية، وخطيبها أمام الجلاوزة (الشرطة) إبان المظاهرات الطلابية، ومتحدثها عند أستاذي النحرير الزين حامد مدير المدرسة، ومحافظيّ كسلا تتابعاً، الراحلين محمد عبد القادر وكمال عمر آنئذٍ. فقد كانت لنا أيام في مدرسة كسلا الثانوية، عندما نتذكرها نتذكر قول الله تعالى: “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
أحسبُ أنني مهما حاولتُ في هذه العُجالة أن أرثيه، فلن أفيه حقه من الذكر والتخليد، لعظيم جهده – تعليماً وتربيةً-، وواسع فضله. فالرثاء في اللغة بتصريفاتها، كما جاء في “لسان العرب” لمحمد بن مكرم بن علي أبي الفضل جمال الدين بن منظور الأنصاري الرويفعى الأفريقي بمعنى: “البكاءُ على الميت بعد موته ومدحه وتعديد محاسنه، أو نظم شعر فيه بعد موته”. واصطلاحاً الرثاء هو التوجع والحزن، ومنه رثاء النبي صلى الله عليه وسلم لسعدِ بنِ خولةَ رضي الله عنه، كما جاء في صحيح البخاري وغيره، فقد رثاه بقوله: “لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ” يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. وقال شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني في “فتح الباري” “.. ويُقال رثيته إذا مدحته بعد موته، ورثيتُ له إذا تحزنت عليه”.
ووجب علينا، نحن طلاب كسلا الثانوية، وإن تفرقت بنا السبل، تعزية أهليه على هذا المُصاب الجلل، الذي أصابهم من جراء وفاته. والتعزية لغة: من (عَزِيَ) (يَعْزى) من باب (تَعِب)، أي صبر على ما نابه، فهوة عزٍ، وعَزِيٌّ (وعزيتُه تعزيةً) قلت له: أحسن الله عزاءك، أي رزقك الصبر الحسن، والعزاء الصبر عن كل ما فقدت. ويُقال: إنه لعزيٌّ صبور، إذا كان حسن العزاء على المصائب، وتعزّى تعزياً، أي تصبّر تصبُّراً، وفعل الأمر منه تعزّ، ومن ذلك قول الشاعر:
تعزَّ فلا شيءٌ على الأرض باقياً
ولا وزرٌ مما قضى الله واقياً
والعزاء هو التعبيرُ عن التعاطف مع شخصٍ يُعاني من ألمٍ نتيجة حالة وفاة أو كُربة نفسية متأصلة أو مصيبة، فنحن طلابه لمحزونون. وتُستخدم كلمة التعازي بصيغة الجمع أكثر من استخدامها بصيغة المفرد لسببٍ غير واضحٍ، لكن ذلك يشبه عادة استخدام كلمات في حالة الجمع مثل “تحياتنا”، “تمنياتنا” وهكذا دواليك!
وأكبر الظن عندي، أن أستاذنا الراحل الزين حامد، كان قوي الشخصية، نهابه ونحبه، نخشاه ونتودد إليه، يعنف علينا ويرحم بنا، والحق عنده يعلو ولا يُعلى عليه، والتربية في فهمه مقدمة على التعليم. وتحكي كسلا كلها في أماكن تحلق طلابها وخريجيها -مقيمين وزائرين- في مكتبة حسن شبوب ومطعم عطية وقهوة الممرضين وكافتيريا خيرات وفوال عم إدريس وغيرها، في ذاكم الزمان، موقف الزين التربوي الصلد، عندما وجد ابن مدير مستشفى كسلا وقتذاك -وعمداً لا أسميه- متلبساً بتدخين سيجارة، فأمره على الفور بإحضار ولي أمره لمناقشته في الأمر الجلل، وجاء والده النطاسي غير منزعجٍ، إذ أنه يعلم أن ابنه يُدخن السجائر، وعليه كان يمنحه مبلغاً من المال لذاك الغرض! خشية أن يتعلم السرقة! ففاجأه المربي الفاضل أستاذنا الزين بأن ابنه غير متربي، لذلكم هو مفصولٌ من المدرسة، ورفض إرجاعه إلى المدرسة حتى بعد تدخل حيدر حُسين محافظ كسلا آنذاك، إلا بعد كتابة إقرارٍ بأنه سيقلع عن التدخين، وأن والده سيمنعه من فعل ذلك، وإذا تكرر ذلكم السلوك مرة أخرى، سيُفصل نهائياً من المدرسة. ووافق أن يرجع الطالب إلى المدرسة بعد تنفيذ عقوبة الجلد والفصل لمدة أسبوعين.
أخلص إلى أن أستاذنا الزين حامد، رغم مشاغل الحياة وصروفها، كان يقتطع من وقته زمناً ليلتقي فيه طلابه وزملائه من الأساتذة، لا سيما لقاء الإفطار الرمضاني السنوي بالخرطوم الذي اعتدنا أن نجعله ضيف شرف ذاكم اللقاء، ونتحلق حوله في مؤانسةٍ ودادٍ.
ألا رحم الله تعالى شاعرنا الجهبذ أبا الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبيء، حين قال:
وما الموْتُ إلاّ سارِقٌ دَقّ شَخْصُهُ
يَصولُ بلا كَفٍّ ويَسعى بلا رِجْلِ
وفي خاتمة هذه العُجالة الرثائية، وجب علينا نحن طلابه، أن نسأل الله تعالى أن يتقبل أستاذنا الزين حامد
قبولاً طيباً حسناً، ويلهم ذويه وأصدقاءه وزملاءه وتلاميذه ومعارفه وعارفي علمه وفضله، الصبر الجميل.
“ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.