ايقونة الادب الإريتري ياسين إزاز يكتب _ على أعتاب الاعتراف
كان يكفي أن تُطل بوجهك من النافذة حتى تستقر أنفاسي …
كان ذلك شعوري الذي أهرب منه دوماً، ويتبعني دون كلل. سقط قناع السعادة عن وجهي مذ علمت أنه رحل، ولن يعود. لقد وصل بي الأمر إلى أن أعرف كل ما كان يخيفني منذ صغري: الخوف … الألم … الوداع … الفقد، كل هذه الأشياء تذوقتها في آن واحد، ولعلي لا أعلم أي شعور كان أصعب بالنسبة لي، فجميعها مشاعر مؤلمة على حد سواء.
غادرتُ المنزل على وجل، أسير خافض الرأس لا أنظر سوى إلى موضع قدمي. غزتْ الأحداث الأخيرة رأسي، ما إن وصلت إلى مفترق الطرق ودخلتُ الرصيف، توقفت فجأة، واتكأتُ على شجرة مائلا بجسدي كله، خلته التفتَ نحوي، كان يعدّل نظارته سميكة العدسات والمربوطة بحبل رقيق يلتفّ بشكل دائري حول عنقه، ثم تنفس بعمق حتى كدت أسمع ذبذبات حباله الصوتية:
“لا يمكن أن نطلب السعادة، أو نبحث عنها، هي دائماً كامنةٌ في أعماقنا، لكننا لا ننظر إلا إلى حيث لا نجد السعادة. نحن -البشر- نطلب أشياءً يكاد يستحيل أن نعثر عليها، لأننا نطلبها ممن لا يملكونها، لكنهم ليسوا بهذا القدر من السوء الذي صورته لك مخيلتك.”
صمتَ قليلا وقد شعر ببعض الرضى لأني لم أقاطع حديثه. كان من عاداتي السيئة -والتي تعجبني ممارستها- ألا أتقبل النصح من أحد، فبقدر ما أنا محتاج إلى النصح أرفضه، وأغضب عندما يُلح عليّ أحدهم به. لكني أؤمن ولو جزئيا أننا عديمو الفائدة، منبوذون ومذلون أينما حللنا، هل ذنبنا أننا خُلقنا ببشرة داكنة وقوام قزم؟ أذاك كان خيارنا، أن نكون ذوي شعر مجعد لا يزيد طوله إلا بعد حول؟ هل يختار الإنسان شكله؟ أيختار نصيبه؟ قدره؟ أمه أو أبوه؟ والكيفية التي يأتي بها إلى الحياة؟ لقد كان حظي أن أكون لئيما عربيدا سليط اللسان، ولهذا كنت أُضرب في الدار الذي نشأت فيها، بعد الحكم على والدتي بالسجن عشرين عاما، بتهمة لم أعرفها، وهروب والدي إلى وطنه الأم، إلى حيث يدفعه الحنين. طوال الفترة التي قضيتها هناك لم تغب ملامح وجهها يوما، كنت أقابل طيفها كل ليلة وأسرد لها ما يحدث لي خلال يومي.
وذات مساء، حين ضربني الحارس البدين الذي تفوح من جسده رائحة مقززة، أخرجت صورتها الصغيرة التي اختفت بعض ملامحها من كثرة القبلات التي أسقطها عليها -على أمل أن تصلها ولو على شكل ضئيل- وشكوتُ لها بحرقة حتى بكيت وأُغمي عليّ. لم أستعد وعيي حتى الصباح، وحين أفَقْتُ، كان أول ما سألت عنه صورة والدتي التي كانت بحوزتي.
شعرتُ بشيء ثقيل يجثم على صدري، فجأة، عدّلتُ اتكائي على الشجرة، وتحدثتُ بصوتٍ خافت:
“كان ذلك مجرد هراء بلا جدوى.”
خطر ببالي أنها اللحظة المُثلى للرد على رسالته التي لا تمتّ بأي صلة إلى الواقع الذي أعيشه، وكلما حاولتُ التخلص من هذا الشعور والبدء في كتابة الرد، داهمتني ذكريات لا أجرؤ على محوها من ذاكرتي. الذاكرة هي العدو الأكبر للإنسان، والذكريات هي السلاح الوحيد الذي يقتلنا دون أن يُصدر صوتا. في كل مرة أحاول البدء، تخونني الذاكرة، وينتابني الشعور أن رسائله مجرد هراء، فأسوّف الأمر إلى أجل غير مُسمى.
عزيزي مايكل:
“لا يبدو لي أن النسيان أمر سهل مثلما تتخيل أنت.
بإمكانك أن تتصور مدى الآلام التي عاناها والدك -والدك الذي يخشى أن يكشف اسمه أمامك- طوال هذه السنوات. في قلبي وجع لم أعد أطيقه بعد الآن، جاء الوقت لتطلع على ما أُخبئه بداخلي.
إنني، وفي كل ليلة، أحلم أن أحدا يطاردني في النوم، يتسلل إلى غرفتي المعتمة ليلا، أحد أخافه خوفا لا يوصف، أخفي عنه وجهي كلما اقترب، يحاول أن يجدني، وبدوري أحاول أيضا أن أختبئ منه، أحاول تجنبه، وعندما أسأم من الاختباء، أشد اللحاف إليّ، إلى جسدي الهزيل لعل هذا يشعرني ببعض الطمأنينة.
حين لم تُعد فكرة شدُ اللحاف مُجدية، صرت ألوذ بالفرار إلى الغرفة المجاورة، فيتبعني شخصٌ آخر مستنداً على عصاً مقوسة المقبض، يمهلني حتى يتلذذ بارتعاشي، ويتمتع بهلعي لأطول وقت ممكن، هذا شعوري طوال هذه الفترة.
يا ابني العزيز …
اعلم، أن خيار الفرار لم يكن سوى محاولة هروب من البؤس الذي سيصيبني -وبالتالي سيصيبك- لو استمرتْ والدتك في الوظيفة التي كانت تشغلها آنذاك. ولكنك الآن تدرك ما معنى ذلك، فقد بلغت سن الرشد، وبإمكانك تخيل حجم الخسائر والمشكلات التي كانت ستثور إن ظللتُ قاطنا معكم. أنتَ كل ما تبقى لي، ولا أريد أن أفرط بك.”
تغرورق عيني للمرة العاشرة، وأنا أطوي الرسالة. ألاحظ في وجوه العابرين سعادة غريبة، كأنهم فرحين بما أصابني، وألاحظ أن بداخلي حزن لا يتلاشى، وجرح لن يندمل وفوضى عارمة. أعود ماشيا إلى بيتي، غرفة ضيقة يشاركني فيها فتية لا نلتقي في الشهر إلا مرة أو مرتين.
– من أنت؟!
سؤال مباغت وجهته لمن كان يقف وراء الباب الذي طُرق بقوة.
– أنا حظك السيء.
– “لم تعد رؤيتك ممكنة …
كعادتك، خفيف الأثر، قليل الحضور، تسابق ظلك المجرد من الملامح. لكني كنت متعلقا بك … هل تذكر آخر مرة أسديتَ لي فيها معروفا؟ بل هل تعرف ما معنى المعروف؟ أنت أحقر من أن تعرف المعروف!
الآن في هذه اللحظة، بينما تقف خلف الباب، تعتريني رغبة لا تقاوم في الانتقام، كم أود لو أُهدر دمك، ثم أمسح به وجهي، وحين تغادر روحك الشريرة المليئة بالخبث والحقد، والأنانية المفرطة، سأجلس فوق رفاتك، فوق الجسد الذي خُلق طاهرا ودنسته بأفعالك الدنيئة، سأخلف رجليّ وأتكئ على جثمانك، ثم أبكي بحرقة: “ليتني فعلتها سابقا.”
هل تذكر كيف أسقطتني؟ كيف كسرتني؟ حين لم تعترف بأني من صلبك. أخبرتَ الجميع، وبكل وقاحة، أنك وجدتني ملقى في أحد الشوارع التي يرتادها السكارى ومُدمِني الوحدة، ولابد وأنك تُقرُّ الآن أنني من صلب أحد السكارى. أتعتقد أني سأنسى؟ سأسامحك؟
أنتَ رميتني طُعما للكلاب مقابل تعويض مادي. أذكر جيدا حين سقطت تحت قدميك أترجاك ألا تدعني لهم. كسرتني، لكني تعثرت، حبوت أتبع خطوات أقدامك التي لا تخطو إلا ظلما، انتظرتك حتى تسندني، انتظرك، وسأظل بانتظارك، ليس لأن تمد لي يدك، بل كي أراكَ مكسورا كما كسرتني! نعم، سيؤلمني ذلك، لكني سأفعلها والبادئ أظلم!”
أطلقتُ تنهيدة غير عادية، حين شعرتُ أني اهبط من السرير. العرق يتصبب من جبيني، القلقُ يؤرقني، وجسدي يتمنى لو يستأنف النوم. ظللتُ على حالتي تلك حتى أيقنتُ أن الصباح أقبل، فغادرتُ سريري هذا الصباح، على غير عادتي، باكراً.
كان التعب يلحّ عليّ بالرجوع إلى السرير، لكني كنت مرغما على المغادرة. كان شيءٌ خفيٌ يدفعني من الخلف، ويقودني نحو مكان هادئ، بعيدا عن الضوضاء التي أعتدتها، والتي لازمتني مذ غادرت مدينتي التي أحب. تتابعتْ خطواتي حتى رستْ على شاطئ شبه مهجور، على يمينه غابة ذات أشجار سوداء طويلة، وأوراق متساقطة. في خضم هذا الجو الرهيب، بينما يجري السحاب في رحاب السماء، حاجبا أشعة الشمس الصباحية دون تقاعس، وجدتها فرصة لأحرر نفسي من عبء كان يثقل كاهلي. إنها فرصة سمحت لنفسها بالتحرر من قبضة التأجيل والتسويف المستمر، لتدوّن الرد المناسب.
تنبيه:
عزيزي – لا يسرنك أن أنعتك بعزيزي-
لقد مضى زمن طويل على استلام رسالتك -وأنت تعلم أنني لا أحب أن أتأخر عليك- دون أن أرد عليها، لكني لاحظت أنك تمهد لشيء يكاد أن يكون مرعبا حتى دون أن أقرأه. ولهذا كنت أؤجل قراءة رسالتك، كما أجّلت كتابة الرد. كان من الواضح أنني تعرفت عليك جيدا، من خلال هذه الرسالة فقط، أدركت جيدا ما معنى أن تمتلك صديقا لوذعيا مثلك. إنك ثعلب مكار، تراوغ بحرفية، بينما تغوص أحرفك في عمق الفكرة، تثرثر دون أن تخرج من فحوى الموضوع، تذهب بعيدا حتى يكاد يظن القارئ أنك فقدت متن الحكاية، غير أنك تربط النهاية بطريقة متقنة، ومبتكرة حديثا. إن كل ما تسطره أناملك يسحرني، ويقلقني على حد سواء، فإني أستنزف جُل طاقتي محاولة أن أكشف ما ترمي إليه. ولعل تكرار قراءة رسائلك أعانني -بعض الشيء- على أن أفقه بعض الأشياء الغامضة.
عزيزي، بينما أكتب رسالتي إليك، تتساقط أمام عينيّ وريقات فاقعة الاصفرار من قمة الشجرة. هذه الأوراق المتساقطة يزعجني أنينها، إنها تشكو باستمرار، حتى وإن لم تجد من يواسيها فإنها ما تزال تئن دون أن تنتظر من أحدهم أن يضمها أو يحتضنها. إن الألم الذي تُقاسيه ليس لأنها سقطت من القمة العالية، بل لأنها ترى الماء بعينها يقترب منها دون أن يسقيها. ولأن البشر سيئون -على حد تفكيرها- فإنهم لا يقومون بتقديم أي إعادة لها.
هذه القناعة مستخلصة من تجارب عدة، فهي -أي الأوراق المتساقطة- تصارع، تكتفي بذاتها مقتنعة بأنها تستطيع أن ترفض، في أعماقها حياتها الخاصة. ولأنها أيضا لا تريد أن تنطفئ تلك الشعلة المضيئة داخلها، ترفض كل مساعدة.
دعني أطمئنك يا عزيزي، كل ما يحدث لك الآن هو بسبب اختياراتك وأنانيتك الطاغية. لابد وأن يتحمل المرء عواقب اختياراته الخاطئة، تماما، مثلما يتحمل بعضنا عواقب أخطاء ارتكبها بعض الحمقى. اطمئن، أنت ستدفع الثمن باهظا، لم أعد احتاجك، ولم تعد ترغب -السيدة التي يسمونها والدتي- برؤيتك. والدتي لم تعد تحتاج العكاز لتتوكأ عليه بقدر ما تحتاجه لتجلدك به إن التقيتم صدفة … يمكنك الآن أن تعيش في تعاسة دائمة تدفع ثمن أنانيتك المفرطة مدى الحياة.”