
يواجه العمل الإنساني في السودان تحدياً محورياً يتمثل في طابعه الموسمي المُلفت. فرغم أهمية المبادرات التي نشهدها في مواسم الخير كرمضان والأعياد والخريف (حقائب الصائم، كسوة العيد، معينات الإيواء)، إلا أن هذا النشاط يغيب بمجرد انتهاء الموسم. لقد باتت الحاجة ماسة لـ “التفكير خارج الصندوق” وتحويل هذا الزخم الموسمي إلى تأثير مستدام يخدم المجتمع طوال العام.
ضرورة التحول الاستراتيجي
إن تحقيق الاستدامة في العمل الإنساني لم يعد خياراً، بل ضرورة استراتيجية تتماشى مع الأجندة العالمية. في هذا السياق، تُمثّل أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر (SDGs)، أو “أجندة 2030 العالمية”، الإطار الأمثل، فهي توفر خريطة طريق واضحة لمعالجة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للجذور العميقة للأزمة السودانية، بدلاً من الاكتفاء بمعالجة الأعراض.
خارطة طريق للتمكين المستدام
يتطلب التحول من العمل الإغاثي الموسمي إلى التنمية المستدامة خطة عمل واضحة ومُنظَّمة تبدأ من التخطيط وتمر عبر استثمار رأس المال البشري وصولاً إلى التمكين الاقتصادي:
* التخطيط القائم على الفجوات لذا يجب البدء بإجراء دراسات معمقة ومسح مجتمعي لتحديد الفجوات الحقيقية في كل المجالات (التعليم، الصحة، الأمن الغذائي). بناءً على هذه البيانات، تُصاغ خطط استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى إطلاق مشاريع تنموية دائمة، وليس مجرد الاستجابة للاحتياجات الفورية.
* استثمار رأس المال البشري وتمثل الطاقة الموسمية الهائلة للمتطوعين كنزاً حقيقياً. يجب تحويل هذا الجهد المُتفرّق إلى قوة عمل منظمة ومؤثرة من خلال حصر دقيق للمتطوعين ومهاراتهم، وإنشاء قاعدة بيانات مركزية، وتنظيم برامج تدريب وتأهيل دورية لرفع كفاءتهم وتوجيه طاقاتهم نحو تنفيذ ومتابعة المشاريع التنموية المستدامة طوال العام.
* إطلاق المشاريع التنموية الدائمة لذا يجب أن يكون الهدف الأساسي هو إطلاق مشاريع تدر الدخل وتُعزز الاكتفاء الذاتي، كالتركيز على برامج التمكين الاقتصادي عبر المشاريع متناهية الصغر والمتوسطة، والتدريب المهني الذي يفتح أبواب فرص العمل. يجب البحث عن حلول تمويلية مبتكرة وتوفير الاستدامة المالية للمشاريع لضمان عدم توقفها.
الشراكة والمسؤولية الوطنية
لا يمكن تحقيق هذا التحول دون تعاون وتنسيق شامل. على الدولة أن تتبنى المشاريع المستدامة كجزء من خططها الوطنية، وعليها إنشاء شراكات استراتيجية فاعلة مع منظمات المجتمع المدني السوداني التي تمتلك المعرفة العميقة باحتياجات المجتمعات المحلية.
إن العمل الإنساني في السودان يقف اليوم على مفترق طرق حاسم. إن اللحظة الراهنة تقتضي منا أن نرفع سقف طموحنا من حقيبة إغاثة عاجلة إلى بنية تحتية للتمكين المستدام. لنعمل معًا، دولة ومجتمع مدني ومتطوعين، لإطلاق مشاريع تخلق الفرص وتوفر الدخل وتُحصّن الأسر من الانتكاس. فالاستدامة ليست مجرد هدف، بل هي الضمانة الوحيدة لكرامة الإنسان السوداني ومستقبل الأجيال القادمة. حان الوقت لتحويل “إغاثة الأمس” إلى “تنمية الغد”.




