
في الحروب لا يُستهدف الرصاص وحده، بل تُستهدف السمعة، وتُستنزف المواقف، وتُعاد صياغة الأدوار قسراً أو طوعاً. وحين تضع الحرب أوزارها، لا تنتهي المعركة، بل تبدأ معركة أخرى أكثر تعقيداً، عنوانها الأسئلة، وأدواتها التأويل، ووقودها الذاكرة الجمعية المثقلة بالدم والخوف والريبة. في هذا السياق يبرز اسم شيخ الأمين، لا بوصفه حالة فردية معزولة، بل كنموذج دال على التحولات القاسية التي تصيب الشخصيات العامة في زمن الانقسام الكبير.
خلال الحرب، كان الاستهداف مباشراً، واضح الملامح، صريح النوايا. جماعات مسلحة لا تقيم وزناً للاختلاف الاجتماعي أو الديني، ولا تعترف بحيادٍ أو مسافةٍ رمادية. الاستهداف هنا لم يكن شخصياً بقدر ما كان رمزياً؛ رسالة لكل من يملك تأثيراً اجتماعياً أو حضوراً جماهيرياً، بأن السلاح وحده هو صاحب الكلمة. في مثل هذه اللحظات، يصبح البقاء ذاته موقفاً، والصمت أحياناً شكلاً من أشكال المقاومة.
لكن ما بعد الحرب لا يقل قسوة. فحين يخفت صوت الرصاص، يرتفع ضجيج الاتهام. تبدأ عملية إعادة الفرز
من كان مع من؟
من صمت ولماذا؟
من استفاد ومن تضرر؟
أسئلة تُطرح بلا سياق أحياناً، وبلا أدلة غالباً، لكنها تجد طريقها السريع إلى الرأي العام. وهنا يتحول الاستهداف من عسكري إلى معنوي، ومن جسدي إلى اقتصادي ونفسي.
اللافت في حالة شيخ الأمين أن دائرة الاستهداف اتسعت. لم تعد محصورة في زمن الفوضى المسلحة، بل امتدت إلى مرحلة يفترض أنها مرحلة التعافي. الحديث لم يعد عن تهديد مباشر، بل عن تشكيك، وتأويل، وربط بين الاستثمارات والمواقف، وكأن النجاح الاقتصادي بعد الحرب صار تهمة، أو كأن النجاة نفسها موضع ريبة.
هذا التحول يفتح باباً مشروعاً للتساؤل
هل نحن أمام تصفية حسابات مؤجلة؟
أم أمام ارتباك عام في فهم ما جرى ويجري؟
أم أن المجتمع، الخارج من الحرب، يبحث عن شماعات يعلق عليها أوجاعه وخيباته؟
في حالات كثيرة، تختلط هذه العوامل كلها، فيُظلم أشخاص، ويُبرأ آخرون، وتضيع الحقيقة بين الضجيج.
الاستهداف الاقتصادي، تحديداً، أصبح سلاحاً ناعماً لكنه فتاك. التشكيك في مصادر المال، وفي نوايا الاستثمار، وفي علاقة رأس المال بالسلطة أو الحرب، دون مستندات واضحة، يخلق مناخاً خانقاً لأي نشاط إنتاجي. والخطر هنا لا يطال شخصاً بعينه، بل يهدد فكرة التعافي نفسها. فالمجتمعات الخارجة من النزاعات تحتاج إلى رأس مال شجاع، لا إلى رؤوس أموال خائفة.
أما الاستهداف النفسي، فهو الأخطر والأكثر خفاءً. حملات التشويه، الهمس، الإيحاء، كلها أدوات تترك أثراً عميقاً، لا يُرى لكنه يُنهك. الشخصية العامة تصبح في مرمى التوقعات المتناقضة: إن تحدث اتُّهم، وإن صمت أُدين، وإن تحرك قيل لماذا، وإن توقف سُئل لماذا. إنها معادلة خاسرة إذا لم تُدار بعقل بارد وضمير حي.
القضية هنا ليست الدفاع عن شخص، ولا تبرئة ساحة، ولا توجيه اتهام. القضية أوسع وأخطر. هي سؤال عن معاييرنا في الحكم، وعن قدرتنا على الفصل بين الوقائع والانطباعات، بين الأخطاء إن وُجدت، وبين الاستهداف المجاني. هل نملك شجاعة المحاسبة العادلة؟ أم نكتفي بمحاكمات الرأي العام التي لا تُنصف أحداً؟
ما يحتاجه السودان في هذه المرحلة ليس توسيع دوائر الشك، بل تضييق مساحات الظلم. ليس تخوين الناجين، بل مساءلة الجناة الحقيقيين. وليس كسر ما تبقى من رموز المجتمع، بل ترميم الثقة على أسس واضحة وشفافة. فالهشاشة الاجتماعية بعد الحرب لا تحتمل مزيداً من الاستقطاب.
شيخ الأمين، كغيره من الشخصيات التي وجدت نفسها بين نيران الحرب وأسئلة السلام، يقف اليوم في منطقة معقدة. منطقة تتطلب قراءة هادئة، لا انفعالية، وتحليلاً عاقلاً، لا تصفية حسابات. لأن ما نفعله اليوم في حق الأفراد، سنجنيه غداً في مصير الوطن.
وانا سأكتب للوطن حتى أنفاسي الأخيرة



