
في عام استثنائي بكل المقاييس، وجدت ولاية الجزيرة نفسها في قلب واحدة من أعقد الأزمات الصحية والإنسانية في تاريخها المعاصر، بعد اجتياح مليشيا الدعم السريع للولاية، وما صاحبه من تدمير ممنهج للبنية التحتية، ونهب للموارد، وتعطيل شبه كامل للنظام الصحي. في خضم هذا الواقع القاسي، برزت عزيمة الكوادر الصحية والمجتمعات المحلية، وتكاملت الجهود الرسمية والشعبية لتثبيت أقدام نظام صحي فقد أكثر من 80% من جمهوره بالنزوح القسري، وتعرض لضربات موجعة في أهم مؤسساته وخدماته.
في هذا العرض، يضع د. أسامة عبدالرحمن أحمد الفكي، مدير عام وزارة الصحة بولاية الجزيرة والوزير المفوض صورة شاملة لما جرى، وما تم إنجازه خلال عام من التحرير، كاشفاً ملامح التحدي، ومفاصل الصمود، وخطط الانتقال من مرحلة الإنقاذ العاجل إلى التأسيس المتين لنظام صحي أكثر قدرة ومرونة في مواجهة أعباء الحرب والأوبئة والمستقبل.
جسامة الخراب وبداية التعافي
مرت سنة على تحرير ولاية الجزيرة، سبقتها سنة ثقيلة منذ اجتياح مليشيا الدعم السريع للولاية، وما تركته من دمار هائل شمل كل الخدمات الأساسية، وكانت وزارة الصحة جزءاً أصيلاً من هذا الخراب. أكثر من 80% من مواطني الولاية نزحوا خارجها قسرياً، وعاشوا أوضاعاً بالغة القسوة في النزوح، وكان من الواضح أن مرحلة ما بعد الرجوع ستكون أصعب بما لا يقاس.
أمام هذا الواقع، كان لابد من تحرك عاجل لاستعادة الخدمات الصحية، مع أولوية قصوى لبرامج الرعاية الصحية الأساسية. انطلقت خطة العمل على محورين متلازمين: إعادة تشغيل النظام الصحي بالحد الأدنى الذي يضمن الحياة، ثم التوسع التدريجي في الخدمات. قامت الكوادر الصحية بعمل كبير في مختلف المحليات، وساندتهم المجتمعات المحلية ووزارة المالية الولائية بتفاعل لافت، فتم افتتاح العديد من المرافق والاهتمام بإعادة تقديم الخدمات الطبية، لتنجح الفرق في فترة وجيزة في استعادة خدمات الرعاية الصحية الأساسية، وإعادة فتح المستشفيات العامة وبدء تقديم الخدمات بوتيرة متسارعة.
شكل توفر الأدوية المجانية نقطة انطلاق حاسمة للتوسع في الخدمات، رغم تأثير السرقة وانقطاع الكهرباء بصورة بالغة على أداء المستشفيات، التي اضطرت للعمل بنصف طاقتها أو أقل، مع الإصرار على مبدأ أساسي: فتح المؤسسات الصحية لاستقبال المرضى، وتوفير فرصة للعلاج مهما كانت الظروف.
نزيف الكوادر واستعادة العنصر البشري
من أكبر الإشكالات التي خلفها دخول المليشيا إلى ولاية الجزيرة هجرة الكوادر الصحية والطبية، في ظل سقوط شهداء كثيرين وإصابات جسيمة بين العاملين، رحم الله الشهداء وعجّل بشفاء المصابين. كانت موجة الهجرة غير مسبوقة، وتركت فراغاً مهنياً وإنسانياً صعب التعويض، وأصبحت واحدة من أعقد المعضلات أمام عودة الخدمات إلى مستواها المطلوب.
رغم ذلك، وبمرور الوقت، تمكنت الوزارة من استعادة كامل الكوادر في محلية مدني الكبرى بنسبة 100%، مع تحقيق نسب تتراوح بين 60–70% في عدد من المناطق الأخرى، في مؤشر مهم على بدء تعافي العنصر البشري، واستعادة روح النظام الصحي الحقيقية المتمثلة في الطبيب والممرضة والفني والصيدلي وكل العاملين في الحقل الصحي.
المستشفيات التخصصية: جراح عميقة ومحاولات ترميم
الخسائر الكبرى تركزت في المستشفيات ذات الصبغة التخصصية: القلب، الكلى، العيون، الأورام، المناظير، والذرة. الإشكال الرئيسي لم يكن فقط في المباني، بل في الأجهزة والمعدات عالية الكلفة التي تم تدميرها أو سرقتها أو إعطابها، وهي أجهزة غير متاحة في السوق المحلي وتحتاج لزمن طويل وتكاليف باهظة لإعادة توفيرها. هذا الواقع شكّل تحدياً استثنائياً أمام استعادة الخدمات التخصصية التي تمس حياة آلاف المرضى بصورة يومية.
إلى جانب ذلك، أدى نهب المتحركات، وخاصة سيارات الإسعاف، إلى أزمة حادة في نقل المرضى، في وقت كانت المعارك تدور على مقربة من مدينة ود مدني لفترات طويلة. بعد تحرير الولاية والخرطوم، تمكنت وزارة الصحة من استعادة جزء كبير من سيارات الإسعاف بدعم قوي من وزارة الصحة الاتحادية، مما سمح بتغطية حركة الإسعاف الحكومي، ثم لحقت بها خدمات الإسعاف الخاصة التي دعمت حركة نقل المرضى بصورة كبيرة.
تم كذلك استعادة جزء كبير من عمل أجهزة الأشعة المقطعية في الولاية، وقدمت هذه الأجهزة خدمات مهمة، بينما تتجه الأنظار إلى عودة جهاز الرنين المغناطيسي في المستقبل القريب، بما يمثّل خطوة نوعية في استعادة الخدمات التشخيصية المتقدمة.
عودة المستشفيات وتأكيد كفاءة الكوادر
شهدت الفترة الماضية عودة متدرجة للمستشفيات، مع تحسن ملحوظ في حجم ونوعية الخدمات المقدمة. مستشفى الصائم للعيون ومستشفى مكة للعيون دفعا بقوة في مجال خدمات العيون، حيث أسهم اختصاصيو واستشاريو العيون في وضع الخدمة على مسار منظم وممتاز. مركز المناظير استعاد نشاطه وقدم خدمات كبيرة، بما في ذلك عمليات مناظير الحويصلة المرارية، التي تغطي ما بين 70–80% من الاحتياج خارج ولاية الجزيرة.
مستشفى جراحة الأطفال كان نموذجاً ملهماً، إذ تم تأهيله على مستوى عالٍ، وقدم خدمات جراحية متقدمة، وكان فصل التوأم السيامي تتويجاً لمجهودات إدارة المستشفى بقيادة البروفيسور فيصل نقد، وتجسيداً لقدرة الكوادر الصحية والطبية في ولاية الجزيرة على تقديم أفضل ما لديها بالرغم من الظروف.
مستشفى ود مدني عاد ليقدم خدمات كبيرة في الجراحة العامة والباطنية، بينما ينشط مستشفى العظام في إجراء عمليات عظام معقدة وبأعداد معتبرة. لم تكن المناقل بعيدة عن المشهد، بل مثّلت داعماً أساسياً للمستشفيات، سواء في خدمات طب الأطفال أو المستشفى العام الكبير، مما ساعد في توسيع قاعدة تقديم الخدمات على نطاق الولاية. مستشفى الحصاحيصا عاد بقوة هو الآخر، ومعه أغلب المستشفيات العامة بدرجات متفاوتة من الجاهزية.
وضعت الوزارة خطة متكاملة للعام 2026م لاستكمال النواقص وترقية خدمات التسيير بالمستشفيات، مع اعتبار العام 2025م عام تأسيس للخدمات الصحية والطبية على أسس قوية. هذا العمل المضني، الذي امتد ليل نهار، شاركت فيه كل أطياف العمل التنفيذي والشعبي، ممثلة في حكومة الولاية بقيادة الوالي والإدارات التنفيذية، والمجتمع، وكانت وزارة المالية والاقتصاد والقوى العاملة رأس الرمح في دعم هذا الجهد.
كما كان لوزارة الصحة الاتحادية دور محوري في المتابعة والدعم، عبر المساهمة في تقوية النظام الصحي بالأجهزة والمعدات، وتسيير بعض المستشفيات، ودعم برامج وخدمات مختلفة على مستوى الولاية.
الأوبئة في زمن الحرب: الضنك والملاريا نموذجاً
أثرت جائحة حمى الضنك والملاريا بشكل كبير على مسار العمل الصحي، خاصة في ظل غياب برامج مكافحة الناقل لأكثر من عامين ونصف، وسرقة الطلمبات والأجهزة والمتحركات، والنقص بداية في ميزانيات التسيير. هذا كله انعكس سلباً على جهود المتابعة والمكافحة.
مع ذلك، وبعمل كبير شاركت فيه الوزارة والولاية وماليتها ووزارة الصحة الاتحادية، تم تقديم نموذج مهم في كيفية مكافحة الأوبئة، مع التزام باستمرار هذه الجهود بشكل موسع في السنوات القادمة بإذن الله، حتى يتم الوصول لمستويات مقبولة من السيطرة على نواقل الأمراض.
الرعاية الصحية الأساسية: من تحت الصفر إلى إعادة البناء
تعرضت برامج الرعاية الصحية الأساسية لضربات قاسية، تمثلت في سرقة عربات الرعاية، وتدمير سلاسل التبريد الخاصة بالتحصين، وإتلاف مليون جرعة من اللقاحات المختلفة كانت تغطي حاجة الولاية لثلاثة أشهر، تسلمتها الولاية قبل أيام فقط من دخول المليشيا، لكنها فُقدت بسبب تدمير وسرقة الثلاجات الحافظة وغياب الكهرباء.
مع الدعم المقدر من اليونيسيف ومنظمة رعاية الطفولة، تمكنت الولاية من الحصول على 35 ثلاجة تعمل بالطاقة الشمسية، وجرى توزيعها على مختلف المحليات لإعادة بناء سلسلة التبريد. كما أسهمت شركة سوداني وعدد من الشركات الأخرى في دعم وجود سلاسل التبريد بالمحليات، وهو ما شكّل ركيزة أساسية لعودة برنامج التحصين.
برنامج التغذية حظي بدعم كبير من اليونيسيف، وشهد تنفيذ العديد من المسوحات التغذوية في مختلف المحليات، ليصل عدد المستفيدين إلى أكثر من 1.3 مليون طفل، في إضافة صحية كبيرة. كما استؤنفت برامج الصحة النفسية، وصحة الأم والطفل، والصحة الإنجابية، وعادت كثير من المستشفيات إلى العمل، مما ساعد بشكل واضح في خفض وفيات الأمهات.
أمراض المياه والرجوع من النزوح
مع دخول المليشيا، وتضرر شبكات المياه، وغياب المياه الصالحة للشرب في بعض المناطق، ثم عودة النازحين إلى مناطقهم، ظهرت إشكاليات صحية إضافية، منها التهاب الكبد الفيروسي، ما استدعى تدخلاً مركزاً في هذه البرامج. كل ذلك جرى في عام استثنائي، الحرب فيه مستمرة، والمليشيا ما تزال موجودة في السودان، والمعارك لم تتوقف تماماً، بينما كان على الناس أن يحملوا السلاح بيد، ويشرعوا في التعمير باليد الأخرى.
في هذا السياق المزدوج، استمر الدعم للقوات المسلحة، وتواصلت في الوقت نفسه الجهود الكبيرة في مجال الصحة، لتشكل هذه السنة حالة استثنائية بحق، بمستوى الجهد المبذول رسمياً وشعبياً، والمشاركة المجتمعية الفاعلة في طرد المليشيا، وبدء الإعمار، وتحريك عجلة الخدمات دون انتظار.
البنية الصحية: نسب عودة مشجعة وخطط استكمال
بلغ عدد المستشفيات ومراكز غسيل الكلى العاملة أكثر من 106 منشأة، مع نسبة عودة تجاوزت 98%، باستثناء بعض المستشفيات التي ما زالت خارج الخدمة لأسباب محددة، مع توقع اكتمال المنظومة في الفترة القريبة القادمة. كما عادت المراكز الصحية بنسبة تفوق 90%، في حين تواجه بعض المراكز مشاكل في الطاقة والكوادر يجري العمل على حلها، مع توقع إنهاء كل مشكلات التشغيل في الربع الأول من العام 2026م.
إلى جانب إعادة التشغيل، تم افتتاح عدد من المستشفيات والمراكز الجديدة، بدعم اتحادي ومنظمات دولية ومشاركات شعبية وحكومة الولاية ممثلة في ماليتها من بينها مستشفى الحديبة أبو الحسن، ومستشفى ود المهيدي الذي يجري التحضير لتشغيله، ومركز صحي القريقريب، بالإضافة إلى عدد من المراكز الصحية التي ستدخل الخدمة قريباً.
الأهم من ذلك كان تركيب وتشغيل واستلام محطة أوكسجين المناقل، المدعومة من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP بمبلغ مليون دولار، وهي واحدة من خطط وزارتي الصحة الاتحادية والولائية لتوطين خدمات الأوكسجين، وقد تم استلامها وبدأ العمل بها بشكل أساسي، بما يمثّل دعامة حيوية لخدمات العناية الحرجة والجراحات.
الملاريا وحمى الضنك: من الانفلات إلى التدخل الشامل
تُعد ولاية الجزيرة منطقة وبائية للملاريا، وكانت برامج مكافحة الملاريا بالمبيد ذي الأثر الباقي تغطي نحو 86% من الولاية برش يتم مرتين في العام، غير أن توقف هذه الأنشطة منذ يونيو 2022م كان واحداً من أهم العوامل التي أضعفت مكافحة نواقل الملاريا والأمراض المنقولة بالحشرات.
قبل 2023م، لم تكن حمى الضنك مرضاً معروفاً في الولاية رغم وجود البعوضة الناقلة (الإيديس)، لكن النزوح من الخرطوم أدى إلى توطن المرض في الجزيرة، لتبدأ جهود مكافحته، ثم جاءت فترة دخول المليشيا فتوقفت جميع أنشطة المكافحة، وكان من المتوقع ارتفاع حاد في نسب الإصابة ونواقل الأمراض، وهو ما ظهر فعلياً في ولايات سنار والخرطوم والجزيرة نتيجة غياب الطلمبات، وقلة المبيدات، وشح المتحركات والميزانيات.
تلا ذلك عمل جاد شاركت فيه وزارة الصحة الاتحادية، ومنظمة الصحة العالمية، واليونيسيف، وشركاء دوليون، وجهاز المخابرات والشرطة والجيش ووزارة المالية بالولاية والمحليات المختلفة، فبدأت حملات المكافحة وانخفضت حدة المرض بشكل واضح في الفترة الأخيرة. ورغم ارتفاع تكلفة المبيد الواحد إلى أكثر من مليار جنيه، تم توفير جزء من وزارة الصحة الاتحادية والولائية، واعتماد استراتيجيات مكاملة تشمل المكافحة البرية والجوية والطور اليرقي.
لأول مرة في تاريخ الولاية، تم تنفيذ رش جوي للملاريا والضنك في غضون 48 ساعة غطت كل اجزاء الولاية إلى جانب توزيع 1.8 مليون ناموسية ضمن استراتيجية مكافحة الملاريا والضنك، مع أعمال واسعة في مكافحة الطور اليرقي وتجفيف البرك، خاصة أن موسم الخريف كان غزيراً ومرتفِع الأمطار بما يسمح بتوالد مكثف للبعوض. كما تحولت المنازل المهجورة بفعل النزوح إلى بؤر غير مرئية لتوالد النواقل، ما استدعى خططاً وتدخلات إضافية يتواصل تنفيذها خلال ما تبقى من العام، وعلى امتداد العام القادم بإذن الله.
بين النقد والظرف الاستثنائي
وجهات النظر الناقدة مطلوبة ومرحّب بها، غير أن تقييم الأداء لابد أن يضع في الاعتبار الظرف الاستثنائي الذي عملت فيه الولاية. نحن نتحدث عن وضع كانت فيه الولاية محتلة، ومقدراتها منهوبة بالكامل تقريباً، وحينما عادت السلطات إلى الولاية عادت بأيديها المجردة، بلا إمكانيات تقريباً، لتبدأ من الصفر: تقييم الموجود والمفقود، وإعادة ترتيب الأولويات، والانطلاق من واقع غير مسبوق في قسوته.
في الأوضاع العادية يمكن الحديث عن قصور بمعايير طبيعية، أما هنا فالسؤال المشروع: هل كانت الظروف عادية؟ مع ذلك، تظل أبواب وزارة الصحة بولاية الجزيرة مفتوحة لاستقبال النقد البنّاء، والاستماع للمقترحات، والتعاون مع كل أصحاب الرأي في سبيل تحسين الخدمات وتجويد الأداء، بالتوازي مع سعي الكوادر للقيام بدورها تجاه الولاية والوطن رغم كل التحديات.
أخيراً
ما جرى في ولاية الجزيرة خلال العام الماضي ليس مجرد استعادة لخدمات صحية تعطلت، بل هو تجربة مكتملة في إدارة أزمة مركّبة: حرب، نزوح جماعي، دمار للبنية الصحية، تفشي أوبئة، وانهيار في سلاسل الإمداد، يقابلها إصرار بشري ومهني على أن تبقى الحياة، وأن يُعاد بناء ما تهدّم على أسس أقوى. أرقام عودة المستشفيات والمراكز الصحية، استعادة الكوادر، إعادة تشغيل الأجهزة، تشغيل محطة الأوكسجين، عودة برامج التحصين والتغذية والأمومة والطفولة، السيطرة النسبية على الضنك والملاريا، كلها شواهد على أن الولاية انتقلت من حالة الإنقاذ العاجل إلى مرحلة التأسيس الواعي لنظام صحي يتحمل صدمات الحاضر ويتطلع إلى استقرار المستقبل.
يبقى التقييم النهائي في يد المواطن، فهو المستفيد الأول، وهو الحكم الأصدق على ما قُدم وما لم يُقدَّم بعد. أما وزارة الصحة بولاية الجزيرة، بقيادة د. أسامة عبدالرحمن وكوادرها، فتمضي في طريق التحسين المستمر، واضعة نصب عينيها أن المسؤولية مضاعفة في زمن الحرب، وأن صحة الإنسان في الجزيرة ليست ملف خدمة فحسب، بل هي جبهة صمود، وركن أصيل من أركان بقاء هذا الوطن وتعافيه.



