
تشهد ولاية الجزيرة واحدة من أعقد المراحل في تاريخها الاقتصادي المعاصر؛ فهي ولاية كانت تاريخياً قلب الزراعة المروية في السودان، ومركزاً صناعياً وخدمياً مهماً، لكنها وجدت نفسها في قلب تداعيات حرب أضعفت البنية التحتية، وعطّلت القطاعات الإنتاجية، وأثقلت كاهل المالية العامة بمتطلبات الطوارئ والمرتبات والخدمات الأساسية.
ورغم هذا الواقع الضاغط، تكشف تصريحات وزير المالية والاقتصاد والقوى العاملة بولاية الجزيرة الأستاذ عاطف إبراهيم أبو شوك عن محاولة متقدمة لإعادة بناء هيكل الاقتصاد الولائي على أسس جديدة تركز على رقمنة المالية العامة عبر نظام “إيصالي” للتحصيل والسداد الإلكتروني، وإعادة تأهيل قطاعات المياه والكهرباء والصحة والتعليم باعتبارها ركيزة للاستقرار الاجتماعي، وتحريك القطاع الصناعي المنهك بالحرب، وجذب شركات تطوير عقاري واستثماري كبرى، ومعالجة تعقيدات هيكل الأجور والمعاشات والوظائف، وتوسيع قاعدة الإيرادات دون اللجوء لزيادة الرسوم المباشرة على المواطنين.
هذا المشهد يضعنا أمام اقتصاد ولائي في حالة “تحول قسري”: تحاول فيه الحكومة الانتقال من اقتصاد طوارئ قائم على البقاء والصمود، إلى اقتصاد إعادة إعمار وتنمية تدريجية، في ظل ضعف الإيرادات، وانهيار أجزاء معتبرة من البنية التحتية، وضغط اجتماعي متصاعد.
التحول المالي والرقمي: من الجباية التقليدية إلى المنظومة الإلكترونية
نظام “إيصالي” والتحصيل الإلكتروني
التحول إلى نظام “إيصالي” لتحصيل الإيرادات وسداد المدفوعات يمثل خطوة جوهرية في إصلاح المالية العامة. يعني هذا الانتقال من النقدية والمعاملات اليدوية إلى المدفوعات الإلكترونية عبر البنوك المؤهلة اتحادياً، مما يوحد منافذ التحصيل ويحد من الفاقد الإيرادي والتلاعب والفساد الإداري، ويخلق قاعدة بيانات مالية دقيقة تساعد في التخطيط ووضع الموازنات وفق أرقام حقيقية لا تقديرات تقريبية.
اقتصادياً، هذا التحول يعني رفع كفاءة التحصيل دون زيادة العبء الضريبي الاسمي، وتقليل كلفة الرقابة والمراجعة، حيث يصبح النظام الإلكتروني نفسه أداة رقابية، وتمهيد الطريق لدمج الاقتصاد المحلي في أنظمة الدفع الوطنية وزيادة قابلية جذب المستثمرين الذين يشترطون وضوحاً مالياً ومحاسبياً.
نظام الخزانة الواحدة والانضباط المالي
يشكل التأكيد على العودة الصارمة لنظام الخزانة الواحدة في 2026، بعد فترة طوارئ سمحت بتجاوزات لتغطية احتياجات المحليات، رسالة سياسية واقتصادية في آن واحد. سياسياً، يعني ذلك عودة الدولة لفرض هيبتها على المال العام ومكافحة “التجنيب”. اقتصادياً، يؤدي إلى تحسين تخصيص الموارد بين القطاعات، وضمان أن القرارات الإنفاقية تنسجم مع الأولويات الاستراتيجية، لا مع ضغوط لحظية أو مصالح محلية ضيقة.
إذا نجح هذا المسار، فسيتيح للولاية إعادة هيكلة إنفاقها من الصرف العشوائي المتعدد القنوات إلى إنفاق مخطط ومراقَب، وتعزيز قدرتها التفاوضية مع المركز والمؤسسات المالية عبر إظهار انضباط مالي.
إعادة بناء البنية التحتية للخدمات: مياه، كهرباء، صحة، تعليم
قطاع المياه والطاقة: استثمار في استقرار المجتمع والإنتاج
يعكس الاستثمار في أكثر من 3500 محطة مياه وتزويدها بالطاقة الشمسية، والإنفاق الذي بلغ 10.7 مليار جنيه على قطاع المياه في 2025، إدراكاً أن استدامة مورد المياه ليست مسألة خدمية فحسب، بل هي أساس لكل نشاط اقتصادي. إن توفير المياه المستقر يقلل كلفة المعيشة، ويرفع إنتاجية العمل، ويحد من النزاعات المحلية. كما أن الاعتماد على الطاقة الشمسية في محطات المياه يقلل عبء الاعتماد على شبكة كهرباء هشة ومتعطلة في كثير من المناطق.
في قطاع الكهرباء، يُلاحظ تركيز خاص على إعادة تأهيل الكهرباء في المناطق الصناعية (مارنجان، الحصاحيصا، مناطق شمال الجزيرة)، عبر شراء أكثر من 300 محول بتمويل يقارب 50 مليار جنيه بالشراكة مع بنك السودان وبنك أم درمان الوطني. كما يجري معالجة جزئية لمشكلة المحولات المنهوبة والمتعطلة بمحطات التحويل في شمال وشرق الجزيرة، مع وعود اتحادية بتزويد الولاية بمحولات جديدة.
من منظور اقتصادي، تمثل هذه التدخلات استثماراً رأسمالياً في “بنية تحتية إنتاجية” أكثر منها خدمية فقط: فكل ميغاواط مستعاد في المناطق الصناعية يعني تشغيل مصانع، وتوفير سلع، وفرص عمل، وإيرادات ضريبية مستقبلية. كما أنها تشكل تخفيفاً للمخاطر الاستثمارية؛ فتوفر الكهرباء والمياه شرط أساسي لقرارات المستثمرين في الصناعة والزراعة والخدمات.
الصحة والتعليم: رأس المال البشري كشرط لأي تعافٍ اقتصادي
بلغ الإنفاق على قطاع الصحة في 2025 قيمة 12.3 مليار جنيه لمشروعات فقط (دون تسيير)، شملت تغطية أكثر من 63 مستشفى بالكهرباء والمياه وإعادة التأهيل، وتأهيل 33 مركزاً صحياً، وتزويد 7 مراكز غسيل كلى بأنظمة طاقة شمسية. هذا يشير إلى توجه واضح نحو “تقوية البنية الصحية الحرجة”، لا سيما خدمات الكلى والطوارئ، بما يحفظ عنصر الإنتاج البشري من التدهور بسبب غياب الرعاية.
أما التعليم، فيشهد تغطية 20% من احتياجات الإجلاس في 2025 بتكلفة تفوق 10 مليار جنيه، وإعادة تشغيل مطبعة الجزيرة لطباعة الكتاب المدرسي، بما يخفض الكلفة ويسرع توفر المناهج محلياً، والتفكير في تفعيل استثمارات التعليم (دكاكين، عقارات، مراكز) لتكون مورداً ذاتياً يغني جزئياً عن الاعتماد على المالية العامة.
اقتصادياً، يعني هذا المسار استثماراً متوسط وطويل الأجل في “رأس المال البشري” الذي لا غنى عنه لأي اقتصاد يسعى إلى تعافي حقيقي، لا مجرد تشغيل قصير الأمد، وتحويل بعض قطاعات الخدمات (مثل التعليم) من عبء صافٍ على الموازنة إلى قطاع يمكن أن يسهم في تمويل نفسه عبر استثماراته وعقاراته.
القطاع الصناعي: من ضحية الحرب إلى رافعة التعافي
حجم الضرر وطبيعة التدخل
كان القطاع الصناعي في ولاية الجزيرة من أكبر المتضررين، حيث شهد توقفاً شبه كامل للمدن الصناعية من الباقير حتى ود مدني بفعل نهب محولات الكهرباء والكابلات والشبكات. أدى هذا الركود الإنتاجي إلى تراجع الإيرادات الضريبية، وزيادة البطالة، ونقص السلع المحلية.
في المقابل، تتجه الولاية إلى إنشاء محفظة تمويل صناعي بحجم يقارب 50 مليار جنيه، بالشراكة مع بنك السودان وبنك أم درمان الوطني، وتوجيه التركيز إلى إعادة تأهيل الكهرباء في المناطق الصناعية، باعتبارها “عنق الزجاجة” الرئيس لأي عودة للنشاط الصناعي، وإنشاء مفوضية مختصة بالاستثمار لتنظيم العلاقة مع المستثمرين، وتسهيل إعادة توطين رأس المال الصناعي.
الأثر الاقتصادي المتوقع
إذا تم تنفيذ هذه السياسات بفعالية، يمكن أن نشهد عودة تدريجية للإنتاج الصناعي في مارنجان والحصاحيصا وشمال الجزيرة، بما يوفر سلعاً أساسية للسوق المحلي ويخفف الاعتماد على الواردات من ولايات أخرى أو من الخارج، وخلق فرص عمل مباشرة في المصانع، وغير مباشرة في النقل والخدمات والتوريد، مما يمتص جزءاً من بطالة الخريجين والعمالة النازحة، وتوسيع الوعاء الضريبي عبر نشاط اقتصادي حقيقي بدلاً من الضغط على المكلفين الحاليين فقط.
تتمثل النقطة الجوهرية اقتصادياً في أن “لا توجد موارد مالية دون نشاط اقتصادي حقيقي”، كما أكد الوزير الأستاذ عاطف إبراهيم أبو شوك؛ فالضرائب والرسوم ليست سوى انعكاس لقيمة مضافة منتَجة على الأرض. من هنا تأتي أولوية دعم القطاع الصناعي كمدخل لتعزيز القدرة المالية للولاية على المدى المتوسط.
الاستثمار والتطوير العقاري: من تمدد أفقي عشوائي إلى سكن رأسي منظم
دور الشركات الكبرى (زادنا وسوقطرة وغيرها)
ترى الولاية أن التوسع الأفقي للمدن داخل نطاق مشروع الجزيرة الزراعي يمثل خطراً استراتيجياً على الأراضي المنتجة، لذلك تتجه نحو تشجيع “السكن الرأسي” للحفاظ على الأراضي الزراعية وتقليل كلفة البنية التحتية الممتدة أفقياً، وتفعيل مذكرات تفاهم وعقود مع شركات مثل “زادنا” و”سوقطرة” لتطوير مخططات سكنية وتجارية في مدني الجديدة، مخطط الإسراء شمال الجزيرة، ومخطط بابل جنوب السوق المركزي.
هذا التوجه يحمل أبعاداً اقتصادية متعددة، منها تخطيط عمراني أوفر كلفة للدولة في شبكات الطرق والمياه والكهرباء والصرف الصحي، حيث تصبح المسافات أقصر والخدمات أكثر كثافة، وخلق أصول عقارية عالية القيمة يمكن أن تكون مصدراً لإيرادات الولاية عبر الرسوم، والأرباح من الشراكات، وزيادة جاذبية الولاية للاستثمارات التجارية والخدمية.
غير أن التحدي الأكبر يتمثل في إعادة تأهيل ما تعرض للنهب (سرقة 11 محولاً كهربائياً في مدني الجديدة وغيرها) حتى لا تتحول هذه المخططات إلى “مشروعات متوقفة” تجمد أموالاً ولا تحقق عائداً، وإدارة العلاقة بين القطاع العام والخاص وفق قانون الشراكة بما يحمي حقوق الولاية والمواطن والمستثمر معاً، ويمنع الاحتكار أو الاستغلال.
سوق العمل والوظائف والمعاشات: ضغوط اجتماعية على مالية محدودة
المرتبات وهياكل الأجور
في ظل ظروف الحرب، حافظت وزارة المالية بالولاية – بدرجة لافتة – على استمرار سداد المرتبات منذ يناير 2024، رغم النزوح واللجوء، بوصول يقارب 60% من المبالغ للعاملين في مواقعهم، واستقرار سداد المرتبات خلال 2025 حسب التعديلات، مع تطلع في 2026 لتحمل الولاية جزءاً أكبر من كلفة الأجور، بما يعني ضرورة رفع كفاءة الإيرادات المحلية.
يتمثل التحدي القادم في الالتزام بمخرجات لجنة اتحادية لإعادة هيكلة الأجور، بما في ذلك بدلات الوجبة والسكن، ما يرفع فاتورة الأجور في موازنة تعاني أصلاً من الضغط، والتوفيق بين الإنفاق على الأجور وبين الاحتفاظ بمساحة كافية للاستثمار التنموي (مياه، صحة، تعليم، طرق، صناعة).
التعيينات ونقص الكوادر
تواجه الولاية نقصاً كبيراً في المعلمين، دفعها لتعيين 1000 معلم، مع طلب اعتماد 19 ألف وظيفة إضافية صادق عليها رئيس الوزراء مبدئياً، ونقصاً في الكوادر الصحية، تمت معالجة جزء منه، وبقيت فجوات أكبر مطلوبة في 2026، واستيعاب 300 موظف من ولايات أخرى، وتعيين 194 متحصلاً مالياً لدعم تطبيق نظام “إيصالي”.
اقتصادياً واجتماعياً، يطرح هذا معادلتين متوازيتين: ضرورة توفير الوظائف لاستيعاب الخريجين الذين لم يجدوا فرصاً منذ 2015، تجنباً لانفجار اجتماعي أو هجرة واسعة، وضرورة ضبط كتلة الأجور حتى لا تلتهم معظم الموازنة الولائية وتخنق الاستثمار في البنية التحتية والخدمات.
المعاشات والمديونيات للصندوق القومي
يكشف ملف المعاشات عن عمق الأزمة المالية. فقبل 2023 لم تكن هناك متأخرات في فوائد الخدمة أو استقطاعات الصندوق القومي للمعاشات. بعد الحرب، ظهرت مديونية نتيجة إلزام الولايات بسداد 25% التزام المخدم و8% استقطاع من المرتب في وقت لم تُسدّد فيه المرتبات نفسها بشكل منتظم. وقد توصلت الولاية إلى اتفاق لجدولة هذه المديونية مع الصندوق لضمان عدم تعطيل مستحقات المعاشيين.
يعكس هذا الوضع ضغطاً ثنائي الاتجاه على خزينة الولاية: من العاملين الحاليين الذين يطالبون بتحسين الأجور، ومن المتقاعدين الذين يحتاجون لصرف معاشاتهم في ظل تضخم وغلاء معيشة. إذا لم يتم تنشيط القاعدة الإنتاجية والإيرادية، فقد تتحول المديونيات للصندوق إلى قيد ثقيل على كل خطط التنمية المستقبلية.
الضرائب والإيرادات المحلية: توسيع القاعدة لا رفع الأسعار
سياسة الرسوم والضرائب
يؤكد الوزير الأستاذ عاطف إبراهيم أبو شوك توجهاً واضحاً بعدم زيادة الرسوم، خاصة رسوم الصحة والخدمات الأساسية، تجنباً لتعميق المعاناة المعيشية، وتوجيه ديوان الضرائب لتوسيع المظلة الضريبية أفقياً، بدلاً من ممارسة ضغوط تعسفية على المكلفين الحاليين، بعد أن أثارت هذه الممارسات مشاكل في محلية المناقل.
يحمل هذا التوجه بعداً اقتصادياً مهماً يتمثل في أن توسيع القاعدة الضريبية يرفع الإيرادات دون رفع المعدلات، بشرط أن يرافقه نشاط اقتصادي حقيقي وتقنين للقطاع غير الرسمي، كما أن كبح “الجباية التعسفية” يحافظ على بيئة أعمال أقل عداءً للاستثمار، ويعزز ثقة القطاع الخاص.
ضعف تحصيل المحليات واستثمارات التعليم
تعاني المحليات، رغم امتلاكها لمصادر إيرادات، من تقاعس في تحصيل الموارد، مع التركيز على الإيرادات “السهلة” وترك “الصعبة” بحجج نقص الآليات، وغياب مسح حقيقي لممتلكات قطاع التعليم من دكاكين وعقارات (يُقال إنها أكثر من 1000 دكان، لكن التقديرات تشير إلى أنها أكثر من ذلك بكثير).
رد فعل الولاية تمثل في تشكيل لجنة لتفعيل تحصيل إيرادات استثمارات التعليم، وتوزيعها بنسب بين المدرسة والوزارة والمحلية لتحفيز الجميع على التحصيل، وإعداد مسودة لصندوق دعم التعليم لتجميع الاستثمارات والدعم الخارجي (حكومي ومنظمات) في وعاء واحد أكثر كفاءة وشفافية.
يعكس هذا المسار وعياً بأن جزءاً من الحل المالي ليس في خلق ضرائب جديدة، بل في “اكتشاف واسترداد” موارد قائمة أصلاً لكنها غير مفعّلة أو مهدرة، وإدخال الأصول غير المستغلة (عقارات المدارس، المراكز، الأسواق) في الدورة الاقتصادية المنظمة يمكن أن يغير معادلة تمويل التعليم والبلديات.
الأسواق والذبيح والمحاصيل: بنية تحتية اقتصادية مهملة
تشير إشارة الوزير الأستاذ عاطف إبراهيم أبو شوك إلى غياب المسالخ الحديثة (باستثناء مسلخ واحد في تمبول معطل لأسباب الصرف الصحي)، وغياب أسواق منظمة للماشية والمحاصيل في كثير من المحليات، إلى “فجوة بنية تحتية اقتصادية” خطيرة.
فغياب المسالخ النظامية يضيع على الولاية فرصاً كبيرة من الرسوم، ويضعف رقابة الجودة والصحة العامة، ويقلل من القيمة المضافة للحوم قبل التسويق. كما أن ضعف أسواق المحاصيل المنظمة يحد من إمكانات تسعير عادل، وتنظيم التداول، واستقطاب التجار والمصدّرين، وبالتالي يضيع موارد محتملة من الرسوم والإيرادات.
تعني الخطة المعلنة للتركيز على إنشاء أسواق للماشية والمحاصيل، وتطوير المسالخ في الفترة المقبلة، اقتصادياً بناء “منصات” لالتقاط القيمة المضافة قبل خروجها من الولاية، سواء في شكل رسوم أو خدمات أو تخزين أو تجهيز، وتحسين موثوقية سلاسل الإمداد بين المنتجين المحليين والأسواق الوطنية والإقليمية.
اقتصاد الجزيرة.. بين واقعية التحديات وضرورة التحول البنيوي
تقدم رؤية وزير المالية والاقتصاد بولاية الجزيرة، الأستاذ عاطف إبراهيم أبو شوك، لوحة متكاملة نسبياً لاقتصاد ولائي يعيش تحت ضغط ثلاثي:
أولاً، ضغط الحرب وانهيار البنية التحتية المتمثل في نهب محولات الكهرباء والكابلات، وتوقف المناطق الصناعية، ونزوح وتقاعد جماعي لما يقرب من 8 آلاف عامل خلال فترة قصيرة، وتعطل جزئي لأسواق ومحاور إنتاج وخدمات حيوية.
ثانياً، ضغط المطالب الاجتماعية والوظيفية الذي يظهر في ضرورة استمرار سداد المرتبات وتحسين هياكل الأجور، ومعالجة ملفات المعاشيين والمديونيات للصندوق، واستيعاب بطالة تراكمت منذ 2015، خاصة وسط الخريجين، وتوفير الحد الأدنى من الصحة والتعليم والمياه والكهرباء للسكان.
ثالثاً، ضغط القيود المالية والإيرادية الناجم عن موازنة طوارئ في 2025 مع إنفاق كبير على القطاعات الخدمية دون موارد كافية، وتوقف أو ضعف الإيرادات المتوقعة مما اضطر لرفع متأخرات 2023 و2024 إلى المالية الاتحادية، ومحدودية القدرة على زيادة الرسوم في ظل تدهور القوة الشرائية للمواطن.
في مواجهة هذا الضغط الثلاثي، تتبلور ملامح “استراتيجية خروج” متعددة المحاور تشمل إصلاحاً مالياً ورقمياً عبر “إيصالي” والخزانة الواحدة، لتحسين تحصيل الإيرادات ومكافحة الفاقد والتجنيب، واستثماراً مكثفاً في البنية التحتية الحرجة (مياه، كهرباء، صحة، تعليم) لخلق قاعدة مجتمعية مستقرة وقابلة للإنتاج، وإعادة تشغيل القطاع الصناعي كرافعة أولى للنمو والإيرادات المستقبلية، وتطويراً عمرانياً واستثمارياً منظماً بالشراكة مع شركات كبرى لتحويل العقار من عشوائية مُهدِدة للأرض الزراعية إلى ثروة منتجة، وتفعيل الأصول المحلية غير المستغلة (أصول التعليم، الأسواق، المسالخ) لسد جزء من الفجوة الإيرادية دون إرهاق المواطن برسوم جديدة.
ومع ذلك، يظل مستقبل هذه الاستراتيجية مرهوناً بعدة عوامل حاسمة مثل قدرة الولاية على فرض الانضباط المالي فعلاً لا قولاً، خاصة في المحليات وأجهزة التحصيل، ومدى نجاحها في تحويل الوعود الاتحادية (المحولات، دعم المديونيات، اعتماد الوظائف) إلى موارد فعلية على الأرض، وكفاءة الإدارة في تنفيذ المشروعات الاستثمارية والعمرانية دون فساد أو سوء تخصيص أو احتكار من الشركات المتعاقدة، وقدرتها على تحقيق توازن دقيق بين كتلة الأجور والاستثمار التنموي، حتى لا تتحول الموازنة إلى “موازنة مرتبات” فقط.
إذا استطاعت ولاية الجزيرة أن تنفذ ما أُعلن من توجهات وفق هذه الرؤية المتكاملة، فإن السنوات 2025–2026 يمكن أن تشكّل بداية انتقال من “اقتصاد طوارئ هش” إلى “اقتصاد تعافٍ تدريجي” يستعيد فيه القطاع الصناعي والزراعي والخدمي عافيته، وتستعيد المالية العامة جزءاً من مرونتها، ويجد المواطن إشارات واضحة على تحسن واقعه الخدمي والمعيشي.
أما إذا تعثرت هذه المسارات بسبب ضعف تنفيذ، أو انقطاعات في التمويل، أو استمرار التوترات الأمنية والنهب للبنية التحتية، فإن النتيجة ستكون تعمقاً للأزمة، واتساعاً للفجوة بين الاحتياجات المتزايدة والموارد المحدودة، بما يهدد ليس فقط الاستقرار الاقتصادي، بل والاستقرار الاجتماعي والسياسي في الولاية بأسرها.
بهذا المعنى، تقف ولاية الجزيرة اليوم عند “مفترق طرق اقتصادي”: إما أن تستثمر ما تبقى من مواردها المادية والبشرية، مدعومة بالإصلاح المالي والشراكات الاستثمارية، لتبني نموذجاً ولائياً ناجحاً في التعافي بعد الحرب، أو أن تنزلق إلى مسار استنزاف طويل، حيث تلتهم الأجور والديون ما تبقى من قدرة على التنمية، وتتحول الحرب من حدث عابر إلى حالة اقتصادية دائمة.



