مقالات

للحقيقة لسان- رحمة عبدالمنعم – سقوط هجليج.. مصالح جوبا على المحك

امس الإثنين انسحب اللواء 90 مشاة التابع للجيش من حقل هجليج بولاية غرب كردفان، ليدخله عناصر مليشيا الدعم السريع في خطوة تنقل الحرب إلى واحد من أكثر المواقع حساسية في البلاد،فمنذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عامين ونصف ظل حقل هجليج بمنأى عن الاستهداف، ليس لأن الطريق إليه كان مغلقاً، بل لأنه مرتبط مباشرة بمصالح دولة جنوب السودان، التي يمر عبره نفطها وتُعالَج فيه صادراتها قبل ضخها إلى موانئ التصدير أو إلى مصفاة الخرطوم، فضلاً عن خزانات تتجاوز سعتها 400 ألف برميل، أي أن هجليج ليس مجرد حقل داخل حدود دولة، بل نقطة توازن اقتصادي بين دولتين.
قبل عام انسحبت قوات الجيش من المناطق القريبة من الحقل — من فاما ونجاما وكيلك وخرسانة — وتجمعت جميعها تحت قيادة اللواء 90، فأصبح الطريق إلى هجليج مفتوحاً وسالكاً، ومع ذلك لم تتقدم المليشيا ولم تهاجم الحقل، كانت تدرك أن التعرّض لهجليج ليس مجرد مغامرة عسكرية، بل مقامرة بعلاقتها مع جوبا، أو ربما دعوة مفتوحة لتدخلها المباشر، خصوصاً أن الحقل يقع على تماس حدود جنوب السودان، وأن أي عبث به يهدد شريان اقتصادها الأول.
ورغم أن الحقل كان يعمل بنصف طاقته منذ الشهور الأولى للحرب، فإن الشركات العاملة فيه — وعلى رأسها تحالف GNPOC الذي يضم شركات صينية وماليزية وهندية وسودانية — آثرت تقليص وجودها إلى الحد الأدنى، فقد منحت شريحة واسعة من موظفيها إجازات طويلة، وبعضها مفتوحة، فيما واصلت شركة “2B Opco” الإشراف الإداري على الحقل بطواقم محدودة،أما شركة بترونيدز فقد واصلت تشغيل (آبار السيرفس) بعدد قليل من المهندسين والفنيين من أبناء المنطقة ومن خارجها، ومع تصاعد المخاطر نقلت الشركات معظم معداتها وآلياتها إلى داخل دولة جنوب السودان، خشية أن تلقى المصير نفسه الذي لحق بحقول بليلة وشارف وسفيان ودفرا وغيرها بعد دخول المليشيا إليها.
وهكذا وجدت المليشيا حقل هجليج شبه خاوٍ من الغنائم، لكنه ظل ممتلئاً بأهميته الاستراتيجية، فالدخول إلى الحقل لا يعني الانتصار، بل الدخول إلى قلب المرفق الذي تعتمد عليه جوبا في ميزانيتها وتوازنها الاقتصادي، ومن هنا يبرز السؤال: هل ستقف حكومة سلفاكير متفرجة، أم أنها سوف تمارس ضغطاً على المليشيا، حماية للمرفق الذي يشكّل عصب اقتصادها؟
جنوب السودان، بحكم الضرورة لا المجاملة، لا تستطيع تجاهل ما يجري في هجليج،فأي اضطراب في منشآتها ينعكس مباشرة على إيراداتها وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها وعلاقتها بالشركات الدولية التي تستثمر في نفطها، وقد يأتي الضغط عبر قنوات سياسية مباشرة، أو عبر وسطاء إقليميين، أو من خلال الشركاء لتحالف GNPOC الذين لا ينظرون بعين الرضا إلى وضع يتحول فيه حقل هجليج إلى مسرح حرب.
إن دخول مليشيا الدعم السريع إلى هجليج لحظة فارقة في مسار الحرب؛ ليس لأنها تمنح المليشيا مكسباً ميدانياً، بل لأنها تضرب في قلب شبكة المصالح التي ربطت الخرطوم بجوبا لسنوات، وتكشف هذه الخطوة أن الحرب تجاوزت الخطوط التي كانت تُعد خارج منطق المغامرة، وأن خريطة الصراع باتت تدخل المناطق التي كانت محفوظة بقوة المصالح لا بقوة السلاح.
اليوم تتشابك الأسئلة أكثر من الإجابات، فهجليج ليست مجرد حقل نفطي، بل عقدة اقتصادية وسياسية تجمع اقتصادين وحدوداً ومصالح واستثمارات دولية،والدخول إليها لا يحمل أي مكسب مادي للمليشيا، لكنه يفتح الباب واسعاً أمام احتمالات الفوضى التي قد تطال منشآت المعالجة وخطوط الضخ وخزانات النفط والآبارالبترولية التي يعتمد عليها السودان، وتعتمد عليها دولة جنوب السودان في تمويل خزينتها العامة، ولهذا يدرك المراقبون أن جوبا قد تجد نفسها مضطرة إلى استخدام جميع أدوات الضغط، سواء عبر الأطراف الإقليمية أو عبر الشركات، لإيصال رسالة واضحة مفادها أن العبث بهجليج ليس شأناً داخلياً، بل تهديداً مباشراً للدولة الجارة.
ما جرى في هجليج يذكّر بأن الحرب حين تطول تكسر كل المحرّمات،فهي تتقدم حيث لا ينبغي لها أن تتقدم، وتجر الجميع إلى خطوط كانوا يظنون أن المصالح تحميها،ومع دخول المليشيا إلى الحقل تصبح الأيام المقبلة اختباراً حقيقياً لجوبا: هل ستكتفي بالقلق؟ أم ستتحرك لحماية موردها الأهم؟ المؤكد أن هذا الحدث ليس خاتمة مشهد، بل بداية فصل جديد من فصول حرب ما زالت تبحث عن نهايتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى