مقالات

للحقيقة لسان – رحمة عبد المنعم -لماذا يهرب المستثمرون؟

لم تكن مغادرة الملياردير السعودي سليمان الراجحي، والشيخ صالح الكامل، ورجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، وإغلاق مشروعاتهم التي شكّلت ركائز كان يمكن أن تُحدث تحولاً حقيقياً في الاقتصاد السوداني، سوى إشارات واضحة – ومؤلمة – لحقيقة واحدة: البيئة الاستثمارية في السودان طاردة، وقانون الاستثمار هو أول أبواب الطرد وأوسعها، واليوم يلوّح المستثمر المصري محمد الجارحي بالرحيل، رغم دخوله واحداً من أهم القطاعات الاستراتيجية، قطاع الذهب. لكن الهجوم الإعلامي وضعف الحماية القانونية عطّلا انطلاق مشروع تقدَّر استثماراته بنحو 277 مليون دولار، هذه الخروجات ليست طوعية ولا مزاجية، بل نتيجة مباشرة لفشل الدولة في توفير بيئة استثمار شفافة وعادلة ومستقرة، في وقت يحتاج فيه السودان – بعد تحرير مساحات واسعة من أراضيه – إلى رأس المال أكثر من أي وقت مضى لإعادة بناء اقتصاده المنهك عبر الزراعة والتعدين والصناعة والطاقة، لكن رأس المال لا يأتي إلى بيئة تهدم الاستثمار أكثر مما تبنيه.

وتظل تجربة الراجحي المثال الأكثر وضوحاً على حجم الخلل؛ فقد دخل الرجل السودان بمشروع وقفي لا يهدف للربح، ورفع نسبة زراعة القمح إلى 100% في الولاية الشمالية “لأن القمح غذاء الفقراء”، وتحمّل الخسائر، وباع الإنتاج عبر عطاءات رسمية لسيقا وسين والبنك الزراعي ومطاحن الفردوس، وورّد دقيقاً للدولة بقرض لثمانية أشهر، وسدد ثمن مخزون قمح بالدولار ثم وزّعه على الأيتام والمساكين، كما شغّل آلاف السودانيين، واعتمد على كوادر وطنية كاملة في الإدارة والتشغيل، وتبرع للمستشفيات ودفع تعويضات للمواطنين، ومع كل ذلك ظل عرضة للاتهامات والعرقلة الإدارية والضغوط المجتمعية، حتى غادر عام 2019 وتنازل عن مشروع غرب القولد بكل أصوله للدولة، مؤكداً أنه لن يعود، لينقل استثماراته إلى موريتانيا والصومال، حيث “الفقراء يحتاجون القمح والبيئة أقل عداءً للمستثمر”.

وقبل الراجحي، غادر الشيخ صالح الكامل بصمت بعد إغلاق مشاريعه، بينما قال رجل الأعمال الكويتي سعد البراك – المدير السابق لشركة “زين” – عبارته الشهيرة بعد تجربة الاتصالات: “لقد خدعونا”، في إشارة لبيع الحكومة “موبيتل” ثم تأسيسها “سوداني”، أما نجيب ساويرس فأكد أن خروجه كان بسبب بيئة غير مستقرة لا تحترم الاستثمار، رغم نجاح مشاريعه، واليوم يواجه مشروع الجارحي في قطاع الذهب المصير نفسه بسبب الهجوم الإعلامي وتضارب السلطات وضعف الحماية.

هذه الوقائع ليست حوادث متفرقة، بل نتيجة طبيعية لقانون استثمار مترهّل لا يوفر نافذة موحدة، ولا استقراراً ضريبياً، ولا حماية قضائية، ويترك المستثمر تحت رحمة تضارب الصلاحيات بين المركز والولايات، وضغوط المجتمعات المحلية، ومزاج المسؤول الإداري، وفي ظل هذه التعقيدات يصبح خروج المستثمرين أمراً متوقعاً، وتغدو عودة رؤوس الأموال السودانية – التي غادرت بسبب الحرب – حلماً بعيد المنال ما لم تتغير القواعد الحاكمة للّعبة الاقتصادية.

إن السودان يحتاج اليوم إلى إصلاح جذري لقانون الاستثمار: توحيد الجهة المسؤولة، حماية المستثمر من التعطيل والابتزاز، ضبط العلاقة بين المركز والولايات، تأمين الأراضي الاستثمارية، تقديم حوافز ضريبية وجمركية حقيقية، وتحديث سياسات البنوك لتصبح داعماً للإنتاج لا عائقاً له، كما تحتاج الحكومة إلى برنامج يعيد الثقة لدى المستثمرين المحليين والأجانب عبر ضمانات واضحة وتحكيم سريع ومستقل.

فالمستثمر ليس خصماً للمواطن ولا تهديداً لسيادة الدولة؛ المستثمر شريك في التنمية. ومن يطرد المستثمر إنما يطرد التنمية نفسها، ويترك البلاد بلا زراعة ولا تعدين ولا وظائف، في وقت تحتاج فيه الدولة إلى كل فرصة وكل دولار لإعادة بناء اقتصاد خرج من حرب قاسية ويبحث عن بداية جديدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى