مقالات

وهج الفكرة – د .أنس الماحي – -من أشعل الجحيم ..؟؟

أصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة، عبر وزارة خارجيتها، بيانًا اتهمت فيه الفريق أول عبد الفتاح البرهان برفضه إحلال السلام ورفضه الخطة الأميركية الرامية لتهدئة الأوضاع في السودان. غير أنّ قراءة الواقع على الأرض تكشف تناقضًا صارخًا بين مضمون البيان ومسار الأحداث خلال العامين الماضيين.

السياسة التي اتبعتها أبوظبي في السودان، كما أشارت تقارير أممية ودولية موثّقة، قامت على دعم غير مباشر لميليشيات الدعم السريع بالسلاح والمال والمقاتلين واللوجستيات، في محاولة لفرض واقع جديد يضمن نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا في بلد يعاني هشاشة بنيوية منذ عقود.

ومع تضييق الجيش السوداني الخناق على هذه الميليشيات ومحاصرتها في أكثر من محور، بدا واضحًا أن المشروع الذي حاولت الإمارات هندسته في السودان يقترب من نهايته. فالميليشيات رغم ضخامة الإمدادات التي وصلت إليها من طائرات مسيّرة وحديثة ومرتزقة وأسلحة بدأت تتراجع أمام تقدم الجيش واستعادته زمام المبادرة.

في محاولة للالتفاف على هذا التراجع سعت أبوظبي إلى الزج باسم الأمم المتحدة، مقتبسةً من تقاريرها لوصف الوضع الإنساني المأساوي في الفاشر وغيرها من المناطق. ولا ينكر أحد قسوة تلك الظروف، لكن السؤال الملحّ هو : من أشعل هذا الجحيم أصلًا ؟ .. الإجابة لم تأتِ من خصوم الإمارات بل من تقارير صادرة عن الأمم المتحدة نفسها، التي تحدثت بوضوح عن دور أبوظبي في إذكاء الصراع عبر دعم قوات غير نظامية تتحرك خارج سلطة الدولة.

ولم تكن هذه المناورة السياسية الأولى فقبل أشهر خرج المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي الدكتور أنور قرقاش ليتحدّث عن “الحكم المدني” في السودان منتقدًا المسار السياسي في الخرطوم، بينما تتجاهل أبوظبي سجلاً مثقلًا بانتهاكات حقوق الإنسان، وتضييق الحريات وتقارير المنظمات الحقوقية ومنها المرصد الأورومتوسطي التي وصفت الوضع في الإمارات بأنه واقع من القمع وتكميم الأفواه، خصوصًا بعد موجة الانتقادات للتطبيع مع إسرائيل.

في خضم هذه الاتهامات، يرفض الفريق البرهان تقديم أي تنازلات تُمنح بموجبها الميليشيات وضعًا سياسيًا لأنه يدرك أن الاعتراف بها يعني الاعتراف بانهيار الدولة نفسها وقد تناولتُ ذلك سابقًا في مقال بعنوان “لا سلام دون جيش واحد ولا سياسة بميليشيا، ولا وساطة من ممول الحرب” مؤكّدًا أن أي عملية سلام لا تبدأ من السيطرة على السلاح ليست سوى سراب سياسي كما ذكرت أن جذور الأزمة السودانية لا تنفصل عن الطموحات الشخصية لآل دقلو الذين حولوا قوات الدعم السريع من قوة مؤقتة إلى كيان ينازع الدولة سيادتها.

ولهذا قال البرهان عبارته التاريخية : “من موّل الحرب لا يمكن أن يكون وسيطًا للسلام” / بهذا الوضوح رسم البرهان إطارًا لأي مسار دبلوماسي، إذ لا يمكن قبول وساطة جهة متهمة بتأجيج الصراع وترى الخرطوم كذلك أن الدور الإماراتي داخل اللجنة الرباعية تجاوز حدود المشاركة المحايدة، إذ حاولت أبوظبي الدفع باتجاه تسويات تخدم مصالحها الإقليمية، على حساب استقرار السودان ووحدة أراضيه.

النتيجة المتوقعة لأي وساطة غير محايدة هي سلام هش، يعيد إنتاج الأزمة بدلاً من حلّها ولذلك ترفض القيادة السودانية اليوم أي مسار تفاوضي تشارك فيه الإمارات قبل وقف دعمها للميليشيات بشكل كامل. فحميدتي كما يراه كثيرون ليس أكثر من واجهة سياسية تتحرك وفق أجندة خارجية، سواء شاء أم أبى. فالقرار الحقيقي لا يُتخذ في صحراء دارفور، بل في أبراج أبوظبي.

إن السودان الذي يدافع اليوم عن وحدته وسيادته لن يقبل بسلام مزيف، ولا بتسوية تُشرعن الانقسام ولا بإعادة تدوير مشروعٍ قام على تمويل الصراع وتسليح الميليشيات فلا يمكن أن يكون صانع النار هو ذاته من يمسك بخرطوم الماء… ولا يمكن لسلام أن يولد من يدٍ ما تزال تُشعل الحريق.

إن المرحلة القادمة ستشهد على الأرجح انهيارًا متسارعًا للمشروع الميليشيوي بعد فقدانه القدرة على الحركة والمناورة. وعندها سينكشف تمامًا وهم “الوصاية الخارجية” التي حاولت بعض الأطراف فرضها على السودان وعليه، يبقى الموقف واضحًا : لا سلام دون جيش واحد… ولا سياسة بميليشيا… ولا وساطة من ممول الحرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى