مقالات

د انس الماحي يكتب : تصاعدٌ يهدّد المنطقة / لماذا تعود نيران الصراع بين إثيوبيا وإريتريا ..؟؟

( 1 )
تتجه الأنظار مجدداً إلى القرن الأفريقي حيث ترتفع حرارة التوتر بين أسمرة وأديس أبابا بوتيرة تُنذر بأن المنطقة مقبلة على مرحلة حساسة قد تعيد إشعال واحدة من أعقد النزاعات في شرق القارة. فبعد سنوات من الهدوء النسبي الذي أعقب اتفاق سلام عام 2018 بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي عادت الاتهامات المتبادلة لتتصدر المشهد، وسط تبادل للغة سياسية حادة، وحشود عسكرية متزايدة وتصريحات رسمية تحرّض على إعادة رسم خرائط النفوذ في منطقة تلتهب أصلاً بالصراعات.

( 2 )
ورغم محاولات التهدئة فإن جذور الصراع تمتد أعمق بكثير من التوترات الآنية. فقد بدأت الخلافات منذ استقلال إريتريا عام 1993 بعد كفاح دام ثلاثة عقود ضد ضمّها القسري من قبل إثيوبيا في خمسينيات القرن الماضي. ولم تكد الدولة الوليدة تلتقط أنفاسها، حتى اندلعت حرب الحدود بين البلدين بين عامَي 1998 و2000 بسبب منطقة “بادمي”، مخلفةً آلاف القتلى، ولعلّ أخطر ما في جذور المشكلة أنها ترتبط بالهوية والحدود والنفوذ، وهي ملفات شديدة الحساسية في منطقة تموج بالتعقيدات العرقية والسياسية والثروات الاستراتيجية.

( 3 )
ومع بداية العقد الحالي، تجددت الخلافات بعد الحرب الدامية في إقليم تيغراي، حين شاركت القوات الإريترية كحليف لأديس أبابا، ليأتي اتفاق بريتوريا للسلام بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تيغراي عام 2022 دون تنسيق مع أسمرة، وهو ما اعتبرته الأخيرة تجاهلاً متعمداً لدورها وتضحياتها. ثم جاءت تصريحات آبي أحمد حول “خطأ فقدان إثيوبيا منفذها إلى البحر الأحمر” لتفجر غضباً إريترياً واسعاً، إذ رأت فيها نوايا عدوانية واضحة تذكّر بحقبة الضمّ القديم، وتفتح الباب أمام أطماع إثيوبية جديدة في ميناء عصب تحديداً.

( 4 )
ورغم تمسّك أديس أبابا بخطاب يؤكد احترام سيادة الجوار، إلا أن دوافعها الحقيقية تبدو أعمق من مجرد البحث عن منفذ بحري فالدولة التي يفوق عدد سكانها 120 مليون نسمة تعاني من اختناق اقتصادي نتيجة كونها دولة “حبيسة” بلا شواطئ، وتعتمد بشكل كبير على موانئ جيبوتي. وفي ظل ضغوط داخلية هائلة تشمل صراعات عرقية وسياسية واحتقاناً اقتصادياً متفاقماً، يسعى آبي أحمد إلى صناعة لحظة “وطنية” تعيد الزخم لخطابه السياسي، وتوحّد الجبهة الداخلية خلف مشروع توسعي يروّج له باعتباره استعادة لحق تاريخي مسلوب. وهنا يظهر “المنفذ البحري” كحلم سياسي وأداة تعبئة شعبوية أكثر منه مطلباً سيادياً قابلاً للتفاوض.

( 5 )
لكن ما يزيد المشهد تعقيداً أن إثيوبيا ليست طرفاً يتردد عادة في افتعال أزمات مع جيرانها. فقد سبقت إريتريا دولٌ أخرى اكتوت بالنزاع مع أديس أبابا، أبرزها الصومال الذي خاضت معه إثيوبيا عدة مواجهات منذ الثمانينيات، ثم عاد التوتر مجدداً بعد توقيع مذكرة التفاهم الإثيوبية مع “أرض الصومال” الانفصالية. كما احتدمت الأزمة مع جيبوتي أكثر من مرة سواء بسبب ملفات الحدود أو رسوم استخدام الموانئ. مثل هذه النزاعات تكشف نمطاً متكرراً من السلوك السياسي الإثيوبي القائم على فرض واقع جديد بالقوة كلما سنحت فرصة إقليمية أو داخلية.

( 6 )
ورغم أن الميزان العسكري يميل بشكل واضح لصالح إثيوبيا التي تأتي في موقع متقدم في التصنيفات الدولية وتمتلك قدرات جوية وبرية أكبر بكثير من جارتها الشمالية، إلا أن إفراط أديس أبابا في الثقة قد يجعلها تخطئ تقدير طبيعة الأرض التي أثبتت عبر عقود أنها السلاح الأقوى لدى إريتريا. فالحدود بين البلدين تمتد لألف كيلومتر من الجبال الوعرة والهضاب الصخرية والأودية السحيقة، وهي بيئة قاتلة للقوات الثقيلة، وتتحول فيها كل صخرة إلى حصن دفاعي. أسمرة تمتلك إرثاً مقاتلاً طويلاً في الجغرافيا ذاتها، ونجحت ضده سابقاً في إنهاك الجيش الإثيوبي رغم فارق القوة. وفي حال نشوب حرب جديدة، سيجد الإثيوبيون أنفسهم مجدداً أمام جيش خفيف الحركة خبير بحرب الجبال، قادر على تبديد أفضلية العتاد عبر حرب استنزاف طويلة.

( 7 )
ويزداد القلق الإقليمي مع سعي أديس أبابا إلى فتح جبهات متعددة في الوقت نفسه. فمن جهة يتصاعد التوتر مع الصومال الذي يرى في الاتفاق مع “أرض الصومال” تهديداً مباشراً لوحدة أراضيه. ومن جهة أخرى، تتوجس جيبوتي من النفوذ الإثيوبي المتنامي، في حين تشعر مصر وإريتريا والصومال بالحاجة إلى بناء تحالفات دفاعية للحيلولة دون تغيير موازين القوى في البحر الأحمر. أما إثيوبيا، فتبدو وكأنها تتجاهل أن كلفة الدخول في أكثر من صراع قد تتجاوز قدرتها العسكرية والاقتصادية، خاصة في بلد يعاني اضطرابات داخلية في أمهرة وأوروميا وتحديات اقتصادية خانقة.

( 8 )
ولا يمكن تجاهل أن إثيوبيا برفعها سقف التصعيد مع إريتريا تحاول صرف الأنظار عن أزماتها الداخلية التي تتفاقم منذ حرب تيغراي، كما تحاول أسمرة بدورها استثمار التوتر مع جارتها لإرجاء استحقاقات سياسية داخلية لم تعد قابلة للتأجيل ومع ذلك فإن أي مواجهة بين البلدين لن تكون مجرد صراع حدودي، بل حرباً إقليمية ستنعكس على البحر الأحمر وأمنه، وستضع القرن الأفريقي كله على فوهة بركان لن ينجو أحد من دخانه.

( 9 )
إن استمرار هذا النهج الإثيوبي القائم على افتعال أزمات مع دول الجوار، سواء في الصومال أو جيبوتي أو الآن مع إريتريا، يثير تساؤلات حول ما إذا كانت أديس أبابا تسعى فعلاً إلى بناء دولة مستقرة ذات نفوذ طبيعي، أم أنها تُقاد نحو مشروع توسعي يستحضر أمجاد الإمبراطورية القديمة، دون أن تملك شروط القوة التي تسمح لها بتحمل تبعاته. فالدول لا تُبنى بتغيير الخرائط بالقوة، ولا بتكرار أخطاء الماضي، بل بإقامة تفاهمات تضمن استقراراً مستداماً في منطقة تحتاج إلى السلام أكثر مما تحتاج إلى المغامرات.

( 10 )
في النهاية، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة حساسة، تتطلب يقظة إقليمية ودولية لمنع انزلاق إثيوبيا وإريتريا إلى جولة جديدة من الصراع الذي لن يحقق لأيٍ منهما مكاسب حقيقية، لكنه قد يشعل بركاناً جديداً في منطقة لم تعد تحتمل المزيد من الحرائق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى