مقالات

للحقيقة لسان رحمة عبدالمنعم النور حمد والحرب.. مأزق العقل الرعوي

يقدّم الجمهوري النور حمد نفسه بوصفه مفكراً يطرح أسئلة نقدية حول بنية المجتمع السوداني، إلا أنّ تجربته خلال الحرب الراهنة تكشف عن تناقضٍ عميق بين الخطاب الذي يعلو به وبين الممارسة السياسية التي تبناها، الرجل الذي صاغ مفهوماً مثل “العقل الرعوي” ليشرح به أعطاب الدولة السودانية، انتهى به لموقف يبرر فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أحد أخطر مشاريع العنف المسلح في تاريخ السودان الحديث، وهو مشروع مليشيا الدعم السريع، التي لم تكن سوى تجسيدٍ صارخ لما يسميه هو نفسه بالعقل ما قبل الدولة، العقل الذي ينقض الفكرة الوطنية من أساسها ويعيد المجتمع إلى منطق الغنيمة والسلاح والولاءات الشخصية.
الأدهى في المفارقة أن النور، وهو القادم من قلب ولاية الجزيرة التي شهدت بعض أكبر جرائم هذه المليشيا، اختار أن يستبطن خطابها ويمنحها غطاءً فكرياً وسياسياً، متجاهلاً ما تعرض له أهله وأبناء منطقته في حلة حمد، القلقالة، ود الترابي، السريحة، ود النورة، وشرق الجزيرة، بل ومتجاهلاً المأساة التي وقعت على أهل الخرطوم، سنار، كردفان، ودارفور،كأن الدم إذا سال من ضحايا لا يتوافقون مع مزاجه السياسي يصبح صداه أقل حضوراً وأقل وزناً في تحليله…….
وفي الوقت الذي كانت فيه التقارير الحقوقية تتوالى حول القتل والنهب والاغتصاب والتهجير الذي مارسته قوات الدعم السريع، كان النور حمد يكتب بأن الحرب أشعلها “البرهان والكيزان” بهدف “سحق الدعم السريع” وإجهاض الاتفاق الإطاري، متجاهلاً حقيقة أن المليشيا أطلقت الرصاصة الأولى في قلب العاصمة وهاجمت مقر سكن القائد العام، كما تغافل عن مشروع القوة الموازية التي أرادت فرض نفسها خارج مؤسسات الدولة، بل فوق الدولة، وعن السلاح الذي يدافع عنه، وهو ذاته سبب الانهيار الذي كان يدّعي أنه يحاول تفسيره في كتاباته…….
في هذا السياق، يصعب التفريق بين موقف سياسي اعتباطي وبين تماهٍ كامل مع مشروع لا يمت للدولة الحديثة بصلة، خصوصاً عندما يصر النور حمد على اختزال كل جرائم المليشيا إلى “تجاوزات” حشدت لها—بحسب وصفه—”الآلة الكيزانية” بهدف شيطنة الدعم السريع. هذه ليست قراءة تحليلية؛ بل قراءة تبريرية تتجاهل مركز الحقيقة: من الذي قتل ونهب ودمّر وشرّد؟ من الذي أعاد السودان إلى منطق الفوضى؟ من الذي كسر فكرة الدولة لصالح حكم المليشيا؟……..
الأزمة لا تكمن في رؤية النور حمد الفكرية وحدها، بل في الطريقة التي وظف بها خلفيته المستمدة من الفكرة الجمهورية، بفهمها القائم على تقسيم الإسلام إلى “مكي” و“مدني”، في سياق الدفاع عن مليشيا تمارس نقيض قيم “الرحمة والتسامح” التي يتحدث عنها،هنا يظهر التناقض جلياً: خطاب ديني–فلسفي يدّعي السمو الأخلاقي، وموقف سياسي يساند قوة لا علاقة لها إلا بالبطش وممارسة العنف العاري،كيف يمكن لمن يطالب بتحرير العقول من أسر التقليد أن يقف مع مشروع يعيد البلاد إلى أشد مراحلها ظلاماً؟ وكيف لرجل ينتقد “العقل الرعوي” أن يتبنى خطاب قوة قامت على روح العصبية ذاتها التي يهاجمها؟
مع إعلان ما يسمى بـ “حكومة التأسيس” من نيالا، وهي حكومة صُنعت على عجل تحت رعاية الجنحويد وحلفائهم،كشف الموقف الدولي والإقليمي حقيقة هذا المشروع، إذ قوبل برفض كامل، لأن العالم لا يعترف بأجسام سياسية تولد من فوهة بندقية مليشيا ارتكبت ما ارتكبته،ومع ذلك بقي النور حمد متمسكًا بالدفاع، كأنما يريد إحياء مشروع لفظه الواقع، لا أمل فيه، ولا قاعدة شعبية تحميه، ولا مشروعية أخلاقية يمكن أن تسنده.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس سؤالًا سياسياً فحسب، بل سؤال أخلاقي قبل كل شيء: كيف لرجل قضى سنوات ينتقد تشكلات السلطة التقليدية أن يتجنب إدانة الجرائم التي وقعت في مسقط رأسه ومنطقته؟ وكيف لمثقف يدّعي أنه ابن مشروع الدولة الحديثة أن يناصر سلاحاً كان هو ذاته مشروع تقويض الدولة؟..ما خسره النور حمد في هذه الحرب لم يكن مجرد موقف سياسي، بل مصداقية المثقف الذي يفترض أن ينحاز للضحايا، للحقائق، وللقيم التي يستند إليها المجتمع حين ينهض من الركام. لقد اختار الرجل أن يضع نفسه في معسكر السلاح، لا معسكر المجتمع…
في النهاية، المشكلة لم تعد في “العقل الرعوي” كما يسميه، بل في العقل الذي يبرر العنف ويتغاضى عن الدم وينحاز للميلشيا حين ينبغي على المثقف أن ينحاز إلى الإنسان.
والذين يقرأون المشهد اليوم يرون بوضوح أن ما حدث لم يكن مجرد خطأ تقديري، بل انزلاق كامل إلى خطاب يسعى لإضفاء شرعية على قوة فاقدة لها منذ البداية، قوة رفضها الشعب وأدانها العالم،لذلك يبقى السؤال معلقًا فوق تجربة النور حمد: كيف يمكن لمن يرفع راية الدولة الحديثة أن يدافع عن البندقية التي عملت على محوها؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى