مقالات

للحقيقة لسان – رحمة عبدالمنعم – تسابيح مبارك ..صور الخيانة والعمالة..

في زمن الحروب، تتكشّف المعادن، وتُختبر المواقف، وينقشع غبار الشعارات عن وجوهٍ كانت تُخفي ما لا تُظهر،الإعلام في جوهره رسالة، وحين يفقد الإعلامي صلته بالوطن الذي أنجبه، يتحوّل الميكروفون إلى خنجرٍ يطعن الحقيقة باسم المهنية، ويُغلف الخيانة بورق «التحليل» و«التغطية»..
في السودان اليوم، لم تعد المعركة فقط على الأرض، بل على الرواية أيضاً، جيشٌ يقاتل لاستعادة مناطق احتُلّت، ومدنٌ تنهض من تحت الركام، وشعبٌ يُهجّر ويُجوّع ويُقتل، بينما في الطرف الآخر أصواتٌ ناعمة تُعيد تدوير الأكاذيب من استوديوهاتٍ باردة لا تعرف معنى التراب الوطني ولا حرقة الأمهات،من بين تلك الأصوات، يطل اسم تسابيح مبارك خاطر، ليشكّل مثالاً صارخاً على السقوط المهني والانسلاخ الوجداني.
هذه المذيعة التي خرجت يوماً من بيئة إعلامية سودانية، حملت حقيبتها إلى الخارج لتجد في شاشات (مشيخة أبوظبي) موطئ قدم، وهناك تحوّل صوتها شيئاً فشيئاً إلى أداةٍ تُستخدم في رسم صورة مشوّهة لبلدها، ودرعٍ لفظيّ تدافع به عن مليشيا تلطّخت أيديها بدماء الأبرياء، على شاشات «سكاي نيوز عربية»، وفي حساباتها الخاصة على مواقع التواصل الإجتماعي التي أغلقت منافذ النقد فيها، راحت تسابيح تردد ما يُكتب لها: الجيش السوداني متهم بـ«الكيماوي»، وبـ«التحالف مع الدواعش»، وبأنه «جيش الأيديولوجيا» لا جيش الوطن…….
لم تكن تلك التغطيات صحافة، بل حملة ناعمة بلونٍ إماراتي واضح،حملة هدفها تجميل صورة المليشيا المدعومة من (دويلة الشر)، وتحويل الجلاد إلى ضحية، كانت تسابيح مبارك خاطر تتحدث عن «الأوضاع الإنسانية في دارفور» وكأنها قادمة من كوكب آخر، دون أن تجرؤ على تسمية القتلة الحقيقيين أو الإشارة إلى ساحات الموت التي خلفتها مليشيا الدعم السريع التي تزخرفها بالتقارير المصوّرة…….
ثم جاءت زيارتها الأخيرة إلى مدينة الفاشر، بعد أن سقطت في أيدي مليشيا الجنجويد تحت رعاية السلاح والجوع والمجازر، ظهرت هناك بابتسامةٍ باردة وكاميرا محترفة، وكأنها جاءت لتوثّق “نصراً ميدانياً”، لا لمدينةٍ نزفت حتى العظم،تلك الزيارة لم تكن عملاً صحفياً بقدر ما كانت مشهد تلميع سياسي لمشروع بندقية حميدتي الذي فشل في تحقيق ما خطط له لابتلاع الدولة السودانية، ومحاولةً جديدة من قناةٍ تبحث عن “مشهدٍ إنساني” يغسل وجهاً ملوثاً بالدعاية……………
لقد جاءت لتجميل صور مجازر الدعم السريع في الفاشر، جاءت لتلتقي بسفاح المليشيا (أبولولو) الذي نفذ عمليات تصفياته العرقية بالصوت والصورة، جاءت لتضحك على مأساة الفاشر وترى المدينة النازفة التي أدان العالم كله المجازر التي ارتكبتها مليشيا أبوظبي فيها، وكأنها جاءت من عالمٍ آخر لا يعرف معنى الدم ولا الألم.
إن المشهد في الفاشر لا يُجمّل بالكلمات ولا يُرمّم بالصوت الأنثوي الهادئ، هناك أطفالٌ ماتوا جوعاً، وأمهاتٌ فقدن أبناءهن، وأحياءٌ تُمحى من الوجود، بينما المذيعة القادمة من أبوظبي تحاول أن تُقدّم المشهد على أنه “جهد إنساني” للمليشيا، أي مفارقة هذه؟ وأي سقوطٍ مهني أكبر من أن يتحوّل الإعلامي إلى شاهد زور؟
لقد كشف السودانيون موقفها بوعيٍ وطنيٍّ صافٍ، فواجهوها في كل منصة، بالأسئلة والحقائق والصور، وحين أغلقت خاصية التعليقات على صفحتها في (فيسيوك)، لم تكن تحمي نفسها من الشتائم، بل كانت تهرب من صوت الوطن الذي خذلته.
الإعلام، يا تسابيح، ليس شاشةً تضيء فقط، بل ضميرٌ يضيء من الداخل، ليس وظيفةً تُشترى بالدولار، بل موقفٌ يُكتَب بالدم، الإعلامي لا يُقاس بعدد متابعيه، بل بقدر صدقه عندما يعصف الزمن، والذين يبيعون روايتهم في سوق السياسة سيسقطون سريعاً، مهما كانت أضواء استوديوهاتهم لامعة.
لقد عرفت الأوطان عبر التاريخ خياناتٍ كثيرة، لكن أقساها حين تأتي الخيانة بصوتٍ واثقٍ ونبرةٍ مطمئنة، لأن هذا الصوت يُربك الناس، ويزرع الشك في الحقائق، ويُسوّق للباطل بلسانٍ فصيح……..
ستبقى صور تسابيح مبارك خاطر في الفاشر علامةً فارقة في ذاكرة الحرب السودانية — لا باعتبارها «تغطية إعلامية»، بل باعتبارها نموذجاً صارخاً لتحوّل الكلمة إلى سلاحٍ في يد من لا يؤمن بالوطن إلا حين يُدفع له ثمن، ويوماً ما، حين تنجلي هذه الحرب وتُفتح دفاتر الذاكرة، سيعرف الجميع من كان صوت وطنه، ومن كان صدى لغيره، فالتاريخ لا يرحم من جعل الكاميرا بندقيةً موجهة إلى صدر بلاده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى