مقالات

اخر الليل – اسحاق احمد فضل الله – كلام يكرر

ومن منتصف الثمانينات نكتب بعنوان:
(يوم في حياة عربي مستقل جداً)، وكنا نريد حال الإمارات.
وما نشير إليه يومئذٍ مقالًا يقع الآن حالًا.
كتبنا يومها عن استعمار واستحمار العربي: كيف يتم؟
كتبنا نقول:
في الصباح، المواطن العربي يستيقظ… يوقظه رنين المنبّه المستورد من اليابان، والمواطن يزيح الغطاء المستورد من سويسرا، وينهض من فراشه الإيطالي، ويدخل حمامه المستورد من الصين، ويغتسل بالصابون القادم من فرنسا، وينغمس في البانيو القادم من أمريكا، والمواطن يرتدي ملابسه المستوردة من لندن، والعطور القادمة من برلين تبهجه، والمواطن يجلس إلى المائدة للشاي، ويرشف الشاي المستورد من الهند، ومعه اللبن المستورد من أستراليا، والرغيف الذي استورد من هولندا، والمواطن يُحدّث ابنه الذي هو طالب في كندا عبر الهاتف الحديث المصنوع في أمريكا، والمواطن يهبط إلى عربته المستوردة من ألمانيا، وبعدها يُفاجأ بابنته التي تدرس الأدب في برلين تُحدثه بأنها سوف تبعث إليه بأحدث طبعة للمصحف… طبعة أنتجتها مطابع برلين…*
كنا نرسم الصورة هذه لنسأل عن:
الاستقلال في القاموس الحديث… ما هو؟
الآن، الإمارات تُكذّب قولنا كله، وتكشف لنا أن مقوّمات حياتها لا تُستورد من أطراف العالم، وأن المستلزمات هذه تُستورد من مكان واحد فقط…
إسرائيل.

(2)

الواقع والحكاية…
وممثل سويدي تعس مثل الآخرين هناك، ويقرر الانتحار، وفي الغابة يُحيط بذراعيه ساق شجرة، ويُغلق قيدًا على معصميه، ويُلقي بالمفتاح على بُعد مترين.
ومسافة المترين هذه تصبح محور الحكاية.
فالرجل في اليوم التالي، وتحت الجوع والعطش، يقرر التخلي عن فكرة الانتحار، ويحاول الوصول إلى مفتاح القيد… المفتاح الذي يقع على بعد مترين… ويفشل.
ويقينًا أنه ظل يحاول ليومٍ واثنين وأيام، حتى مات.
الحياة كانت متاحة… وعلى بُعد مترين.
لكن مسافة المترين تصبح هي الشهادة على أن القرارات الكبيرة شيء يجب تأجيله، وأن الرجوع عن الخطأ قد يصبح بعيدًا… بعيدًا… بعيدًا… مهما كان يبدو قريبًا.

(3)

وأنسُ الخنادق يذهب إلى المشاركة… وأنها هي الحياة كلها.
وأيام السينما المحترمة كانت أفلام رائعة تُقدَّم عن ذلك.
وبعض روعتها تأتي من حكايات حقيقية.
وأحدها كان عن مسافرٍ ينزلق في جُبٍّ صخري، ويده تتعلق في شقٍّ صغيرٍ بين صخرتين، والشق كان صغيرًا إلى درجة أن يد الرجل عجزت عن الخروج منه.
والرجل يظل معلّقًا، والساعات… والشمس… والرياح… والظمأ… والجوع… والعجز عن أي حركة، والجب وسط الصحراء، ولا أحد يعبر من هناك.
والمشاهد يتلوّى مع الرجل، والحشرات التي يدعوها الدم تأكل من كفِّه، والمشاهد عيونه تعمى تحت الشمس وتحت الظمأ… و… و…
أخيرًا، الرجل يقرر قطع يده، والقطع الذي يجري بقطعة من الحجر المسنون يصبح عذابًا جديدًا… لكن لا خيار.
واليد تُقطع… والجسم يسقط… والدوار… دوار نزف الدم… وإرهاق الأيام… و…
والرجل يتحامل على سيقانٍ مرتجفةٍ ويمشي، وحين تقع عينه على رجل وامرأة، يقفز قلبك أنت…
الوحدة ليست هي أن تنفرد عن الناس…
الوحدة هي ألا تجد من يبكي معك، ومن يخاف معك، ومن يبحث معك عن الحياة…
الصفة هذه — المشاركة — لا تجدها اليوم إلا عند السوداني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى