حسن فضل المولى يكتب : عمر محمود خالد .. الشاعر الطبيب
..
لقد نبت في بيئةِ تصوفٍ و سُمُو ،،
و التصوف يعني ، الدخول في كل خُلْقٍ
سَنِي ، و الخروج من كل خُلْقٍ دَنِي ،
فمن زاد عليك في الخُلق ، زاد عليك في الصفاء ،، 
والِدُه أقامه على مَحَجَّةٍ بيضاء ،،
و أمُّهُ أرضعته الشعر إرثاً وغرساً ، كما قال ، فهي سليلة ( الدوحة الطيبية ) ،
التي أنجبت ( الناصر قريب الله ) ،
و ( سيف الدين الدسوقي )  و ( محي الدين الفاتح ) و ( التاج مصطفى ) ،
و كثيرين ممن عمَروا القلوب و أناروا سبل السالكين ..
و هو إذ يُباشِرُك ..
يُعْطِيك الدواء بيدٍ ،،
و يمنحُك من روحه ما يُذهِبُ عنك البأس و اليأس ،،
ذلكم ( هو عمر محمود خالد ) ..
فإذا ما أضنى العَالَمِين البحث عن ( إكسير الحياة ) ، ذلك اللغز الذي يطيل العمر و يبارك في أيامه ، فإني أجد في ما يأتي به ( عمر محمود خالد ) ، مما يهَبُ بعضاً من ذلك المفعول المُرتجى ،،
و هذا ما يوحى به لمن يقتربون منه
و يقبلون عليه بقلبٍ محِبٍ سليم ..
( عمر ) إذ يُداوِيك يُرضيك ،،
و إذ يحدثك تجد في ثنايا كلماته ما يُقيك الإحباط و الهم و الحَزَن ،،
و إذ يعشق يريك من نفسه صِدقاً
و إخلاصاً و عذوبةً ، بكلامٍ في منتهى الجمال ، عن منتهى الجمال ، مُفضِياً إلى مُنتهى الجمال ..
كلامٌ يقترن فيه الحُسْنُ مع نقاء السَرِيرة ،،
و بساطة المُفْرَدَة مع حرارة و توهج العاطفة ..
و تعال معي وإقرأ ..
( إنتِ مهما تغيبي عني
أصلو ما بتفوتي مني ) ..
و هو عين ماعبَّر عنه ( أبو الطيب المتنبي ) ..
( لا تَحسَبوا نَأيَكُم عَنّا يُغَيِّرُنا
أَن طالَما غَيَّرَ النَأيُ المُحِبّينا
وَاللَهِ ما طَلَبَت أَهواؤُنا بَدَلاً
مِنكُم وَلا اِنصَرَفَت عَنكُم أَمانينا ) ..
و نواصل مع ( عمر ) ..
( عايشة فيَّ و ساكنة جواي
في خواطري في مشاعري
في تسابيحي و غناي
زي فرح ماليهو آخر
و شوق سنين لي زول مسافر
راجي الزمن في يوم يجيبو
لي ديارو و لي حبيبو
و الفريق يفرح يغني
إنتِ مهما تغيبي عني
أصلو ما بتفوتي مني
في عيونك شايلة أكوان
من براءة و من محَنَّة
و عِزة تشرب من معزة
و من تراثنا و من أصلنا
و وعد غرقان في نداهو
و زحمة أطفال جوه جَنَّة
و زول بيحلم بالعديلة
و فرحة الريد الطويلة
ناس تجيهو تغني ليهو
ناس تبارك و ناس تهني
إنتِ مهما تغيبي عني
أصلو ما بتفوتي مني
و تبقى ياحُلم الأماسي
شمعة ضاوية في كل دار
و زهرة في كل المواسم
كل يوم بتزيد نضار
و بيك تفرح و ليك تغني
إنتِ مهما تغيبي عني
أصلو ما بتفوتي مني ) ..
هذه ( حلم الأماسي ) ،،
القصيدة التي نظمها و هو ( طالب إمتياز ) ، و قد مكثت عند الموسيقار ( محمد الأمين ) عشرين عاما ، قبل أن أن يصدح بها و تجد طريقها إلى الآذان
و الوجدان ، كتعويذةِ سلوى و عزاء ، لكل ( قلبٍ بالفِراق مُرَوَّع حزين ،،
و جَفْن بالدموعِ شَرِيق ) ..
و أنا ، و كثيرون غيري ، عرفنا ( عمر ) الشاعر زينة المجالس ، قبل أن نعرف ( عمر ) الطبيب المُداوِيا ..
و لعل اجتماع الأدب بالطب بالرياضة بالعُشرة النبيلة ، هو ما قادني إليه ، لأعرض عليه أن يبِرَنا بتقديم برنامج ( صحة و عافية ) و هو البرنامج الذي بدأ في ( تلفزيون السودان ) ،
و انتقل إلى ( النيل الأزرق ) ، و قد ذكرت في مقالي ( الجزلي .. و ما أدراك ما المذيعون ) ، أنني اتصلت به في ساعة متأخرة من الليل ، و ما أن أصبح الصبح حتى جاءني يسعى ، فكان هذا البرنامج ( المعمور الخالد ) ، و الذي ظل يُبْدي من خلال تقديمه براعةً نادرةً في اختيار ضيوفه و استخلاص المعلومة و توصيلها بسهولة ويسر ، حتى تظننَّ أنك في حضرة برنامج يدور فيه الحديث عن الشجون و الفنون و اللحون ، لا عن العِلل و الآلام والجروح و المُنَغِّصات ، فتجلس إليه مُنتبهاً منذ أن يبدأ إلى أن يودع المشاهدين بأبياتٍ مُنْتَقاةٍ من الشعر ..
و دائماً ما تجده يستقبل أسئلة المتصلين بروح طيبة و يسوقهم هَوْناً
و هم يُدْلُون بشكواهم و استفساراتهم ،
و يُمهِدلضيوفه من الإختصاصين سبل التوضيح ، و لا يتدخل إلا عند الضرورة ،
و بما يُضفي على الحديث شيئاً من التبسيط يُذِيبُ به تعقيدات المصطلحات الطبية و غموضها ،
أو بما يُذهب عنهم الحرج من بعض الأسئلة ، و قد حكى مرة :
( قبل أسبوع من رمضان اتصلت بي امرأة على الهواء و قالت دايرة رخصة إفطار ليها ولي راجلا عشان عندهم ملاريا و أزمة و مشاكل في المعدة
و طبعاً عندنا ناس بتجرسوا من الصيام و بحاولوا يعلقوا في رقبة الطبيب عشان يقول ليهم افطروا لكن نحن بنمرق منها و بنقول للزول صوم و لو شعرت أنك ما قادر أفطر ) ..
و لقد عرَّفَنا على أحْذَق نطَّاسي السودان من الإختصاصيين و الاستشاريين ،
و منهم ذلك العالِم الجليل ( فُلان ) ،
و ( فُلان ) ،،
و تلك الطبيبة المرموقة ( فُلانة ) ،
و ( فُلانة ) ،،
عشرات بل مئات ،،
و دكتور ( عابدين شرف ) ..
( و جاني المنادي ينادي بيك
و سرتَ زي الضو عليك
و صرخت ياجنة بلال
عالِجْني يا عابدين شرف
سامحني يا أستاد الهلال ) ..
هذا ملمح مما كتبه في ( ام درمان ) الشاعر الجميل ( محمد محمد خير ) ،
وهو يَفِجُّ رؤاه ، من لَيلْ مَلَتَّخْ بالكوابيس
و السهر ..
نعم ..
عمر ليس بالطبيب الشاعر
إنه الشاعر الطبيب ..
و خلال تتبعي لمتذوقي الفنون
و سدنتها ، وجدت أن ( الأطباء ) أكثر من غيرهم يُحَلِّقون في هذه الآفاق الرحيبة و يرشفون من رحيقها المُذاب ..
و لا أجد ( عمر ) بدعاً في ذلك ..
فيا ترى ما السر الذي يجعل ( الأطباء ) الأكثر التماساً للفنون رغم أن المهنة التي يمارسونها ، تقتات من وقتهم
و تركيزهم و اهتماماتهم !!
و من أين يُواتيهم ذلك الإحساس الطاغي بالجمال ، و الإنسان بين يديهم في أسوأ أحواله و أطواره ،، فما العيون النُجل ، و الألسنة الحِداد ، و القلوب النابضة ، والأنوف الشمَّاء ، و الأرداف اللفَّاء ، و الشفاه اللَّعْسَاء ، و الأعجاز المُرْتَجَّة ، و الخواصر المنحولة ،
و السيقان الممشوقة ، و الأسنان البراقة ،، ماهي أمام نواظرهم إلا أجسام واهية واهنة ، ينهشها الداء و ينال منها الإعياء !!
إنهم يُبْدِعون فيما لا نقوى عليه ..
إذ تجد بينهم الكاتب رقيق العبارة ،
و الشاعر الفذ ، و الرسام الماهر ،
و العَوَّاد الباهر ، و المُغني حلو التطريب ..
و كل منكم يعرف ( أطباء ) حلقوا في هذه الفضاءت الرحيبة ..
و أذكر بعضاً ممن عرفت ..
لقد قلت فيما قلت عن صديقي الراحل ( علي الكوباني ) ..
إن ( كوباني ) وهو يُباشر الموتى ، ويحيا بين الأموات ،، يُلمْلِمُ أشلاء هذا ، وينتزع من الآخر سر موته ، ويأتونه بمن يكتشف أن الروح لا تزال كامنة فيه ، فيكفكف أهله الدموع إلى حين ..
و يصف الموت كيف يقع !! و ماذا يحدث لجسد الإنسان بعد أن تفارقه الروح ، و كيف يتحلل إلى أن يصير عظاماً نَخِرة ..
وهو إذ يفعل كل ذلك ..
فإنك لتعجب عندما تجده يُقبل على الحياة وكأنه لم يرى الموت يوما ، ولم يسمع به ،ولم يُعاشر الأموات ..
و كيف يتخذ من الجمال مِهاداً وغواشِيِّا ،،
و يصف من يستعذب جماله بأحلى عبارة و أرق المشاعر و أصدقها ..
( كلك حلو
و انت الجمال
في كل معنى تكملو
بعشق رواك وانوار صفاك
لكن جفاك و الله ما بتحملو) ..
و لكم أن تستمعوا إلى الدكتور ( زروق عبدالمحمود الحسن ) ، الذي نال أعلى الدرجات العلمية في تطبيب الأطفال ، و عمل في أكبر المستشفيات البريطانية إلى حين وفاته ، فهذا الطبيب الفنان ، كان يغني ( لعثمان حسين ) فيطرب له ( عثمان حسين ) ، و أثار مرةً دهشتي
و هيج أشجاني و لوعتي ، وأنا أستمع إليه ، و هو يتغنى ( بعشرة الأيام ) ، ( الفراش الحائر ) ، ( أنا و النجم والمساء ) ، ( خاطرك الغالي ) ..
( دائما أطيب خاطرك الغالى
وأسامحك لو نسيت
ودعت من يهواك
وقلبو بٍقربك مهما نأيت
كم مرة كم حاول يفرق
بينا حاسد أو عزول
كم مره قالوا جنيت عليّا
بدلت ضوء ايامى ليل
لكنى يا نور العذارى
انا ما بضيع حبى قول
تلقانى دايما في رجاك
وغناي في حبك رسول
اسأل عليك الليل ونجمه …
وحتى أنوار الصباح
وكل طائر في سماه
في شريعته الحب مباح
اسال مشاعرك عن هوانا
وليه حنانك ليّا راح
خليتنى في غاية الألم
آمالى تذروها الرياح ) ..
و كنت كثيراً ما أجلس إلى صديقنا
( الدكتور عوض دكام )فأجد أمامي عوالم من البهجة و الحبور ، و إلمَاماً منقطع النظير بالمدارس الفنية و طرائق المطربين ، و ماذا قال ذلك الشاعر في فُلانة و بماذا ردت عليه ، و أجمل ما قاله الشعراء و العاشقون في الأسنان
مشبهين بريقها بالبرق الذي يُجلي الظلام ..
( و من فَاهِك يَتَبَسَمَنْ بروق في بروق يَتَقَسَمَن ) ،،
و ( إذا لاح برق ثناياهو
السحاب يبكي و يذوب في مياهو
و قلوبنا تذوب وإياهو ) ،،
و (ضاوي سِنِك لي بريقو راسل ) ،،
و ( سِنِك براقه يسوي بق ) ..
و لعل المرة الوحيدة التي جلست فيها إلى البروف ( مأمون حميدة ) ، طاف بي حول مقالي الذي كتبته عن الشاعر
( التيجاني حاج موسى ) فبدا لي منه
ما لم يكن متوقعاً لدي ، من تعلق بالشعر و الشعراء ، فرأيت فيه الأديب الأريب لا الطبيب الرهيب ..
و كلما تقترب من الدكتور ( يعقوب محمد عبدالماجد ) كبير الاستشاريين في أمراض النساء و التوليد ، تجده يَبُزُّ المشتغلين بفنون الغناء السوداني
و تاريخه ،،
يُحدِثُك عن الثنائية التي جمعت ( بازرعة ) و ( عثمان حسين ) ، و كأن تلك الصلة كانت موضوع أطروحته
و تخصصه ،،
و يداعب العود بأنامل حاذِقة لا
تظن أنها قد لامست مِشْرَطاً يوماً ..
و أجد فيها قطعة أدبية موجعة ، تلك
الرسالة التي كتبها صديقنا ( الفاتح عمر مهدي ) اختصاصي أمراض العيون ، عندما انتاشه ( سرطان الرئة ) ،،
و قبل أن يفارق الدنيا بأيام ، صور حياته في ( لحظات من السعادة ، مابين الحياة و المرض و الموت ) ،،
و جاء في مُنتهاهها ما يدعوننا لأن نعيش في يقين حتى يأتينا اليقين ..
قال ..
( لكن خلاصة الأمر أشعر بأنني سعيد ..
سعيد بما يقدمه لي الناس ..
سعيد لأني أرى الأشياء بوضوح وشفافية أكثر ..
و سعيد لأن ربي هيأني لألقاه في أحسن حُلة ..
و سعيد لأني مستمتع بكل لحظة
أعيشها اليوم ..
قد أموت اليوم ..
و قد أموت غداً ..
أو ربما بعد سنوات لذا أواصل العلاج
و أشتري ثياب العيد ..
و أعمل الآن على كتابة ثلاثة كتب في طب العيون ..
أرجوكم لا تقطعوا بعضكم
و لا تنقطعوا ..
فالدنيا قصيرة ما بتستاهل خصام ..
تصادقوا في محبة ..
و اختلفوا في ود ..
و تكاتفوا تكاتفوا ..
أشوفكم بخير ) ..
و قد كان آخر عهدي بهذا الطبيب الجميل أن زرته قبل وفاته بأشهر
و بمعيته زوجته الدكتورة( وصال عابدين ) ، فغمرني بكرمه ، و أبدى لي سعادته بتخرج إبنته و قد اشترى لهاعربة سيفاجئها بها ، و أهدى إلي ( نظارة ) فَرِحتُ بها ، و لم أكن أدري
أنها هدية مُوَدِع هذا آخر عهدي به ..
و بودي أن أسترسل في هذا السرد ،
ولكن المقام مقام ( عمر ) ، و هو من
هيأ لي هذه الاستطرادة ،،
و أتمني أن يُسعِفنا أستاذي البروفيسور ( أحمد محمد إسماعيل ) بدراسة تعكس عطاء ( الأطباء ) في هذه الضروب والدروب ، فهو بذلك قمين
و عليه أقدر ، فقد جمع بين الصيدلة
و التَبَحُّر في تاريخ الفكر و الأدب و الغناء السوداني ..
و من تلقاء هذا القبيل البديع المبدع ، يأتيك ( عمر محمود خالد ) مُمْتَطِياً صهوة موجة بطعم العسل و رائحة الأماني و لون الدهب ، فيخلع على كل من يصبو إليه فؤادُه رداءً سابغاً من السماحة و البهاء ..
( ياتو السمح و منو السمح
غيرك سمح
لون الدهب ولا القمح
أيه الدهب و أيه القمح
انت السمح
طبعك سمح ) ..
إنه خُلقٌ فُطر عليه و هو أن يعطي من
مودتِه و معَزَّتِه بأفضل و أنبل و أخلص ما يَقْدِر عليه ، فيحمل لك روحه على راحتيه لتشاطره الإحساس ، و يَهَبَك ضوء عينيه لترى مايرى ، و يقودك في طريق مُقمِرٍ تستمع فيه إلى كل من حولك وهو يُرَدِد و يُغني ..
( خمس سنين معاك يازينة الأيام
يا نوارة الحلوين مرت حلوة زي أنسام
و زي أحلام صبية ندية زي ياسمين
و زي لهفة بعيد مشتاق
يلاقي أحبته الغايبين
خمس سنين
و درب الريد معاك أخضر
خمس سنين بريدك كل يوم أكتر
أحاول مرة بس أنساك
عشان ياغالية أتذكر
أجي و ألقاك دِيِمَة معاي
وألقا هواك مَلَك دنياي
و في أعماقي إتحكر ) ..
و إن كان هذا مما نظمه في رفيقة مشواره الأخضر ، زوجته ، أم ( يوسف ) و ( شرف) ، المرأة الراقية ( ناهد محمود ) ، إلا أنه يَشِي بقوةِ و صدقِ التعَلُّق الذي يبذله لكل من يَهوَى ،،
و الإخلاص لكل ما يُحبُّ ..
و بذلك التعلق يرعى أهلَ بيته ،،
و يُقْبِلُ على أصفيائه ،،
و يُباشر من يقفون ببابه مستشفين ،،
و يُعلي من شأن وطنه السودان ،،
و يُشجع فريقه المريخ ..
( المجد و المريخ توأمان
و النصر فوق صدره الفسيح
و الفخر فوق هامة النجوم يستريح
و الأمن مستتب و الأمان
و أنت يامريخ تصنع التاريخ
تملأ الزمان و المكان
و نحن منعة وعزة و صولجان
اسألوا الأيام عن أمجادنا
و استنطقوا الزمان
اسألوا الغروب و المشارقا
اسألوا الإفرنج و الأعراب و الأفارقة
لا تسألوا الأقزام اسألوا العمالقة ) ..
و انتماؤه للمريخ لم يكن انتماء لسان
و قلم ، و لكنه كان قريباً من أقطابه
و جماهيره ، يغشى نادِيَّهُ و يشهد منافسات فريقه مشجعاً و مؤازراً
كما يفعل المشجعون الأقحاح ،،
و قد حكى لي مرة أنه قد خفَّ يوماً
إلى أستاد الخرطوم ، ليشهد مباراة مهمة طرفها المريخ ، فوصل و الشوط الأول قد قارب نهايته فسأل أحد المنتظرين خارج الأستاد عن النتيجة ،
و قد عرف ذلك الرجل أن السائل هو دكتور ( عمر ) فأجابه : ( مبروك يادكتور المريخ غالب اتنين ) ، ففرح و كافأه بتذكرة ، و عندما دخل ( الأُستاد ) فوجئ بأن المريخ مغلوب ( اتنين ) ،
و بعد المباراة ، و جد نفسه من شدة الغُلب و الخديعة ، يصعد كبري الحرية في طريقه إلى ( السجانة ) ، و مسكنُهُ
( أم درمان ) ..
و قال للصحفي ( نصر حامد ) :
إن الراحل الدكتور ( شرف الدين الطيب ) هو من جذبه للمريخ ،،
و إنه هو من أطلق لقب رئيس الرؤساء على ( مهدي الفكي ) و ( جمال الوالي ) ويرى في ( أبو العائلة ) إدارياً متميزاً،،
و إنه ترأس تحرير صحيفة ( المريخ ) ،،
و إنه يقرأ ( لمزمل أبوالقاسم ) ،،
و إنه مفتون ( بكمال عبدالوهاب ) و( فيصل العجب ) ،،
و إنه يلعب بتوازن بين الشعر و الطب والإعلام و المريخ ،،
و إنه يتمنى أن يرى في المريخ ( أحمد دولة ) و ( محمد ميرغني ) و ( جمال فرفور ) و ( كمال آفرو ) ..
ذلكم هو ( عمر ) ..
يُخالط الناس و يسعى بينهم ..
ففي الأحزان يتقدم المُواسين ،،
و في الأفراح يُضاعف المسرات بحضوره الأنيق ،،
و في كل ( نادي ) تجده يُطَرِّزُ الزواهي
و ينثرر الدرر الغوالي ،،
و لا أنسى ليالي ( النادي العائلي ) ، أيام الأُنس الأنيس و الطرب البهيج ..
لقد كان ( يوم الإثنين ) موعداً ، لا يتأخر ، للقاء الصحاب و الأحباب ، الذين يتنادون من جوف العاصمة و أطرافها ، ليقضوا سُويعَاتٍ ( ينفضون ) فيها ما علق بأرواحهم من أوضار الحياة
و أوشابها ..
كان يَسُرني مرأي الراحل ( صلاح يس ) ،
و يغمرني بترحابه الوجيه ( عماد حسين ) بعمامته و شاله المطرزان بالأزرق ، و أجد ( أمير التلب ) يجالس هذا و تلك ، و يَخِفُّ إليك بأريحية ( ساتي عبدالقادر ) ، و ( شنان ) لا يهدأ له بال و هو يودع و يستقبل ، و لا يغيب الفقيد الدكتور ( أبوسن ) عندما يحضر إلى السودان ، و من مكان بعيد يأتي الراحل ( ميرغني البكري ) يغالب آلامه ، و هناك لأول مرة رأيت ( وجدي ميرغني ) ، و تعرفت على ( عادل جابر أبوالعز ) ، و ( معتز العيلفون ) ، و قبيلة الشعراء و الفنانين و الموسيقيين حاضرة ، و الإعلاميون من كل لون ،
و الرياضيون بأطيافهم كذلك ..
و النساء يُلَوِّن المكان ، ( ماما آسيا ) ،
الراحلتان ( إقبال الكامل ) و (سميرة خليل ) ، أروى ، نوال جنيدابي ، و أحياناً السمراء ( نجوي آدم عوض ) و كوكبة من الهوانم المُعَتَّقات و الفتيات اليانِعات ..
و في كل ليلة ..
و بينما يغني المغني ، و كل يغني على ليلاه ، و قبل أن يَنفَّضَّ السامر ، يُطل ( عمر محمود خالد ) بعد أن يكون قد ودع آخر مرتادي عيادته ،،
يأتي تعلوه ابتسامة عريضة و بشاشة مُشِعَّة ، فيهمس في أذن هذا ، و يحضن ذاك و يلاطف آخر و يضاحكه ، و يرسل تحية الصحة و العافية لأولئك ، و يُبشِّر على المُغني أوالمُغنية ، ثم ما يلبث أن يجبر بخاطر الذين يُلِّحُون عليه في أن يشفي غليلهم بإحدى قصائده ، فيستجيب لرجاءاتهم ، و يتقدم
ليُنْشِد فيما ينشد ..
( ياسيدة لا
فايتانا وين مُسْتعْجِله
شرط العلوم ما إنتي كَمَلتي الحلاه
لازم علوم ما بالسماحة مُؤَّهَّله
ما سمحة قاطعة مُكَمَّله
ما ساحرة نايرة و مُذْهِله
فايتانا وين مستعجلة
الجامعة صِبْحَت قَاحِله
حزنت لياليها و صباحاتا
و بتبكي أصائله
ما كنتي نُوارا و نَسِيما و بُلبُله
كنتي الضياء البِشْلَع سناه يَجَمِله
و كنتي الندي الحاضن زهورا مُبَلِلَه
فايتانا وين مستعجله
فوْتِك منو العاد بِقْبَله
كل القلوب تخضع تجيك مُتْوَسله
تزرع دروبك و تشتله
فايتانا وين مستعجلة ) ..
و القصيدة طويلة ..
و كأن إرادة الله قد قضت أن ترحل ( سيدة علي كرار ) عن الجامعة ، لتشتعل قريحة ( عمر ) بهذه المشاعر المُلْتَاعة ، و الباقية على مدى الأيام ،
و التي تعبر عني و عنكم ، عندما يختفي من مداراتنا من كان لها الضياء ،
و يفارقنا من كان يهب أرواحنا الهناء ..
و رحم الله ( سيدة ) الإنسانة ، التي كانت تعطي المكان عطره و الزمان رحيقه ..
و خلاصة القول ..
إن ( عمر ) تجده مع أي ( زول ) و ليس ضد أي ( زول ) ، و هذه لَعَمْري من صفات ( الأوتاد النُقباءالأنقياءالنُجباء ) ، الذين ينعدل بهم المعْوّج المائل ،
و ينصلح و ينقاد لهم الشارد الجامح ..
و إذا كان( الساسة ) يُعَكِّرون صفوَ أيامنا
( بعَكِّهم ) و( لَتِّهِم ) و ( عجْنِهم ) فإن ( عمر ) وقَبِيلِهِ من المُرهَفِين ، هم من يعطون لحياتنا معنىً و نكهةً و مذاقاً مُستطاباً ،،
و إذا أقبل الناس على بعضهم ، يتلاومون و يتنابذون ويتعاركون ، فإن ( عمر ) يلقاك بالوجه الحسن ، و القول الحسن و الفعل الحسن ،،
و إذا أضناك مَسِيرٌ ، و أرَّقَكَ ليلٌ ،
و جفاك حبيبٌ ، و خذلك قريبٌ ،
فإنك واجِدٌ عنده ( الدواء ) ، فبكلمة يواسيك و بكلمة يُنْسِيك و بكلمة يُسبِيك ، فما سمعته و ما رأيته ، إلا وهو
في حالٍ ، يحمل على الفرح و الانشراح
و التعالي على المرارت و الأوجاع
و الجِراح ..
لا يُحِب النَكَدَ ،،
و لاُينَكِّد على أحد ..
و قد تحققت له بُغْيَتُهُ من الحياة بحبه للناس و قُربِه منهم ، و بمحبة الناس له
و تعلقهم به ..
فياااا ( عمر ) ..
تَهْرَمُ القلوبُ كما تهرم الأبدانُ ، إلا قلوب المؤمنين و الشعراء و الشجعان ..
فكن بخير ..
و لك تحية الصحة و العافية ..
أم درمان 28 يوليو 2022