
حين تبدأ المياه في الإنسياب من خزان سنار، فإن الأمر لا يُعد مجرد فتح بوابات الري، بل هو إعلان حياة، وبشارة موسم جديد يرفض الموت، وينبض على وقع الحقول الموعودة بالخصب. وما حدث اليوم في مشروع الجزيرة لم يكن حدثاً فنياً روتينياً، بل مشهداً وطنياً عميق الدلالة، ينبئ بأن إرادة الزراعة ما زالت تنبض في عروق هذه البلاد، رغم الخراب، ورغم الحرب، ورغم أن الخرائط تغيّرت تحت أقدام المليشيا
في مشهد يحمل أكثر من رمزية، تم ضخ مياه الري إلى قنوات مشروع الجزيرة إيذاناً بانطلاق الموسم الزراعي 2025–2026، بحضور والي ولايتي الجزيرة وسنار، في خطوة يمكن وصفها بأنها بداية حقيقية لمعركة البناء والإنتاج بعد سنوات من الفوضى والانهيار ،لكن خلف هذا المشهد الإحتفالي، هناك تفاصيل من العرق والالتزام والمواجهة الصامتة مع الواقع المرير
الأستاذ الطاهر إبراهيم الخير، والي ولاية الجزيرة، لم يكتفِ بالظهور في صور البروتوكول، بل اختار أن يكون في قلب الميدان، يتفقد طلمبات مزيقيلا التي إنهارت بفعل التخريب الذي طال كل ما يمت للحياة بصلة، ثم تعافت بصبر الرجال، وعادت للعمل بطاقة قصوى، مواقفه تتجاوز الشعارات، فهو يعرف أن الزراعة في الجزيرة ليست موسماً إقتصادياً فحسب، بل هي عمود فقري لبقاء الوطن، لذلك لم يتردد في إعلان تسخير كل إمكانات الولاية لإنجاح الموسم، واضعاً الزراعة ضمن أولويات حكومته، ليس على الورق، بل على الأرض، وسط الطين والماء وأصوات المحركات العائدة من موتٍ مؤقت
ما فعله والي الجزيرة هو بالضبط ما تحتاجه البلاد: قيادة تعرف قيمة الأرض، وتدرك أن التنمية لا تصنعها المؤتمرات الصحفية، بل تصنعها الطلمبات حين تدور، والحقول حين تخضر، والرجال حين يثبتون، لقد أعاد الحياة إلى رمزية المشروع الذي ظل لعقود عماد الأمن الغذائي، ورفض أن يُطوى ضمن قائمة الخراب
إن نجاح صيانة طلمبات مزيقيلا بعد أسبوع واحد فقط من الدمار الذي لحق بها على يد المليشيا، لا يُعد إنجازاً فنياً فحسب، بل هو فعل مقاومة، مقاومة لكل ما أراد للجزيرة أن تُهزم، وللزراعة أن تموت، وللشعب أن يتسول
بهذا النفس، وبهذه الروح، يمكن أن نقول إن الموسم الزراعي القادم ليس مجرد موسم، بل هو امتحان حقيقي للدولة، ولإرادة أهل الجزيرة، ولقياداتها التي إختارت الفعل على الخطابة، إن كانت البداية قد ارتوت بماء سنار، فإن النهاية ستُروى بعرق المزارعين، وبحكمة من إختاروا أن يحموا سواعد الزراعة من أن تُكسر مرة أخرى.