منال عباس تكتب : رائحة من نحب
كانت الرصاصات الثلاث التي اخترقت نافذة منزلنا الزجاجية في ( أبروف) ، و سقطت على بعد سنتيمترات قليلة من رأس صغيري ( يحيى ) وهو نائم ، سببا كافيا لأقتنع بعد شهر و نصف من بداية الحرب التي اشتعلت نيرانها في العاصمة الخرطوم ، بمغادرة المنزل إلى مكان آمن و العودة بعد أيام قليلة – حسب ما صور لنا الأمل الكاذب وقتها – لحياتنا العادية الآمنة التي لم نحسب وقتها أننا فقدناها للأبد.
كنت و أنا أعد حقائبنا الصغيرة والتي وضعنا فيها القليل جدا من احتياجات السفر المعتادة ، كنت أفاضل بين الأشياء والضروريات ، و كان صوت ( يحيى ) و هو يحثني على المغادرة في يوم الرحيل حزينا و متوترا فقد اكتست سماء ( أم درمان ) بسحائب سوداء ، و كنا نسمع دوى الانفجارات و أصوات الرصاص تتناهي إلينا من كل الاتجاهات.
كانت تلك هي المرة الأولى التي أغادر فيها المنزل منذ أسابيع ، جلست في المقعد الخلفي للسيارة الصغيرة التي أقلتنا و بعض الأقارب إلى أرض الجزيرة الخضراء ، و بدأ الوجه الجديد لمدينتي الحبيبة يتكشف أمام عينَيَّ الذاهلتين ، مغبرا و شاحبا و متشحا بالسواد . كانت السيارة تطوي بنا المسافات و تطوي معها قلبي مثل سجادة عتيقة مليئة بالغبار ، لم أكن أعرف وقتها أن الأماكن التي تسكنني سوف تصبح بعد أيام قليلة مسكونة بأشباح هبطوا عليها من أشد مكان في الجحيم سوءا.
كانت مدينة بحري وقت عبورنا لطرقاتها ، وردةً من دخان أسود ، وردةً شذاها البارود و نداها دموع الخائفين الذين كانوا يركضون في كل اتجاه ؛ ركض بعضهم بحثا عن ملاذات آمنة ،
بينما ركض الآخرون محملين بغنائم الحرب التي نهبوها من منطقتها الصناعية و ما جاورها من منازل فر أصحابها و تركوها في الأيام الأولى للحرب.
كنت تمثالا من الشمع ، تمثالا عصي الدمع . تخونني الحروف
وتعصيني مشاعري بعد كل هذا الوقت في ترجمة ما أحسست به في تلك اللحظات ، كأنَّ شيئا ما يعتصر قلبي مثل إسفنجة مشبعة بالدماء ، لكن يبدو أن دمي كان قد تجمد وقتها ؛ فلا شئ كان يتساقط من تلك الإسفنجة البائسة . كنت أتشظى في صمت ، و كانت الرحلة التي ستطول في لجج المجهول قد بدأت لتوها.
بعد إقامة قصيرة في أرض الجزيرة ، بدأت الأنباء تتواتر عن دخول التتار الجدد لدارنا ، عن إقامتهم فيها، عن استباحتهم لممتلكاتنا و ذكرياتنا ، عن نبشهم في خصوصياتنا – صورنا ، تذكاراتنا ، عن أشياء لا يعرفون قيمتها المعنوية لنا و لن يعرفوا .
هيأ الله لصغيري و يسر له سبيل السفر إلى الخارج في وسط هذه الفوضى . حمدت الله الذي يدبر بلطفه جميل أقدارنا ، فكلما أُغلِق باب ، فتح برحمته أبوابا وأبوابا .
عرف الصغار قبلي – وهم خارج السودان – بما حدث للمنزل ، أخفوا عني الخبر ، خوفا و رفقا بي ، لكنني عرفت كما عرف الكثيرون مثلي ، فلابد مما ليس منه بد . مرة أخرى تحولت لتمثال – تمثال من الحجر هذه المرة – فهناك في تلك الدار الصغيرة و الحميمة ، و في تلك الدواليب التي تركنا مفاتيحها معلقة فيها ، كان هناك أغلى ما أملك ، أكياس مغلقة بعناية فيها ملابس من أحب و عليها رائحتهم . فستان ( سلافة) الذي ارتدته آخر يوم لسفرها ، توب أمي ( أب قجيجة) الأبيض الذي يحمل بقايا عطرها ، جلباب والدي الذي ارتداه آخر مرة قبل أن يتمكن الداء من جسده و يرحل عنا ، حاملا عمرا من الحنان و المحبة ، طرحة ( حبوبة التومة) التي كانت تتلفح بها في مقيلها في ظلها الظليل وسط أولادها و بناتها و أحفادها ،
وأشياء وأشياء قد تكون داستها أبواتهم الحقيرة في بحثهم عن الغنائم المتوهمة دون أن يأبهوا لمشاعرها و مشاعرنا .
أتساءل و أنا ( هنا) كلما حملني الحنين إلى ( هناك) : هل تتذكرنا تلك الأماكن؟! هل تحن إلينا خيوط الطرح و التياب و الجلاليب و الطواقي والتي أخفيناها في القلوب قبل الرفوف و الادراج ؟! هل ما زالت تشعر بدفء لمساتنا لها و نحن نحملها بين أيدينا نقربها من أنوفنا نتقلدها و نقلدها غيرنا ،
ونعانقهم ( و نتكرف ) رائحتهم فيها ؟!
تبا لك أيتها الحرب اللعينة لم تسلبي منا الحياة ، بل سلبتِ ما يعطي الحياة حياة .
بقلم الأستاذة
منال عباس