
السودان، أرض النيل الخالد، وقلب إفريقيا النابض، أرض الحضارات العريقة ككوش ومروي وترهاقة، ومهد الإنسان الأول، يمرّ اليوم بمرحلة استثنائية من تاريخه، بعد أن أثقلته المحن وتكالبت عليه الابتلاءات. لم تكن السنوات الأخيرة إلا سلسلة من الامتحانات الربانية التي كشفت معدن الإنسان السوداني الأصيل، وأظهرت صبره وصلابته حين تشتدّ الخطوب.
لقد تعرضت البلاد لدمارٍ واسع، طال البنية التحتية، ومزق النسيج الاجتماعي، وهجّر الملايين من أبناء الوطن عن مدنهم وقراهم، ليجد كثيرون منهم أنفسهم يعودون للعاصمة الأم، الخرطوم، وقد أصبحت غير الخرطوم التي عرفوها.
عادوا إليها وقلوبهم مثقلة بالألم، يحملون ذكريات بيوتٍ هُدّمت، وأحلامٍ تأجلت، وأرواحٍ فاضت إلى بارئها ظلماً وعدواناً. فماذا بعد؟ وإلى أين يتجه السودان؟
متطلبات المرحلة الراهنة:
في خضم هذا الظرف الاستثنائي، هناك متطلبات عاجلة، لا تحتمل التأجيل، ينبغي العمل عليها بشكل عاجل، وبتنسيق عالٍ بين الدولة والمجتمع المدني والشركاء الدوليين، وأولها:
إعادة إعمار الإنسان قبل البنيان
فالسوداني اليوم يحتاج إلى إعادة ترميم داخلي، نفسيًا واجتماعيًا، بعد ما شهده من مشاهد العنف والتشريد. الدعم النفسي والمجتمعي أولوية لا تقل أهمية عن أي مشروع إعمار مادي.
إحياء روح الوحدة الوطنية
السودان لا يمكن أن ينهض إلا بتكاتف جميع أبنائه، عربًا ونوبة، فورًا وفورًا، مسلمون ومسيحيون، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا. لا مخرج لنا إلا بالرجوع إلى القيم التي تربّينا عليها: التسامح، الكرم، التراحم، والمروءة.
توفير الأمن والخدمات الأساسية
لا يمكن الحديث عن عودة الحياة الطبيعية دون توفير الأمن الحقيقي للمواطنين، وضمان الحد الأدنى من الخدمات: ماء، كهرباء، صحة، وتعليم. يجب أن تعود المستشفيات للعمل، والمدارس تُفتح، وتُزال آثار الحرب من الطرق والأحياء.
تمكين الشباب والمرأة
هم عماد المستقبل، والشباب تحديدًا هم من ذاقوا مرارة الحرب أكثر من غيرهم. يجب إدماجهم في عملية إعادة البناء، عبر فتح فرص التدريب والعمل والمشاركة السياسية الفاعلة.
عدالة انتقالية ومحاسبة حقيقية
لا يمكن بناء السلام دون إنصاف المظلومين ومحاسبة المتسببين في الكوارث التي ألمّت بالوطن. المصالحة لا تعني النسيان، بل تعني الحقيقة، فالعدالة أساس السلام والاستقرار.
استثمار ثروات السودان لخدمة أهله
السودان غني بثرواته الطبيعية والزراعية والمعدنية، ولكنها لم تُستخدم بعد لمصلحة المواطن. آن الأوان لإعادة النظر في كيفية إدارة هذه الموارد، لتكون مصدرًا للتنمية لا لعنةً عليه.
خاتمة:
إن ما يحدث اليوم ليس نهاية المطاف، بل بداية لمرحلة جديدة في تاريخ السودان، مرحلة يُولد فيها الوطن من رحم الألم، ويُعاد فيه بناء الإنسان السوداني على أساس جديد من الوعي، والكرامة، والعزة.
سيظل السودان حيًا، ما دام فيه من يحمل ترابه في قلبه، ويؤمن أن شمس الأمل لا بد أن تشرق، مهما طال الليل. فليكن شعارنا في هذه المرحلة:
“نبني ما هُدم، ونرمم ما تكسّر، ونمضي إلى الأمام بوطنٍ يسع الجميع.”
بقلم ✏️
مي الفاضل ابراهيم