منصة عطاءات السودان tender.sd عطاءات السودان
التقارير

معاوية السقا يغوص في أعماقها ويخرج بالمثير امبراطورية المشردين العالم السري للشماسة

الخضوع لقوانين "المملكة" وطاعة المعلم أبرز ما يميز عالمهم السري

وأنت تتجول في قاع المدينة وشوارعها، حتما ستراهم هنا وهناك، تجدهم في الساحات والمقاهي وفي محطات النقل وأمام دور السينما وكذلك في الأماكن المهجورة والخرابات، أطفال بوجوه شاحبة غابت نضارتها.. وتراجع ألقها وفقد فيها نزق الحياة وروعتها عيونهم غائرة وأجسامهم هزيلة ونفوسهم مهيضة هدها الضياع وأتعبها الجوع، لتموت في أعماقهم كل تلك المعاني والأماني الجميلة في الحلم بغد أفضل.
لقد أضحت أحلامهم موقوفة عن التنفيذ بعدما اقتلعهم القدر من أحضان أسرهم الدافئة، ليقذف بهم في عوالم مجهولة المعالم، وتتحول حياتهم إلى جحيم يكتنفها الغموض ويطبعها اليأس. ويسمها الحرمان.. الكلام هنا عن إمبراطورية الشماسة الذين صارت أعدادهم في تزايد يوما بعد يوم فهم إفراز حقيقي لواقع مؤلم ومرير.
حصن متين
عندما فكرت في اختراق هذه الإمبراطورية المغلقة نصحني الكثيرون من الأصدقاء والمعارف أن انأى بنفسي بعيدا عن المخاطر لأن مجتمع الشماسة من الصعوبة بمكان الولوج إليه، ولأنني أؤمن بالتحدي وروح المغامرة قررت أن اخترق تلك القلعة الحصينة ولكن كانت هنالك عقبة أمام طريقي ماهو المدخل الذي الج به لعالم ملئ بالمتناقضات والشراسة بحسب ما صور لي البعض، الأقدار وحدها يسرت لي مهمتي عن طريق الصُدفة تعرفت بشخص يعمل في تجارة الموبايلات تربطه علاقة طيبة مع زعيم الشماسة الذي يدعى (بيل) ويطلقون عليه لقب (المعلم) وبيل هذا صاحب نفوذ وكلمة لن يستطيع أحد أن يتجرأ ويعصي له أمرا، وإذا ما تم التفاوض بيني وبينه ستكون المهمة في غاية اليسر وقطعا سيكون ذلك عبر الوسيط الذي تعرفت عليه.
فوائد أخرى
أشارت عقارب الساعة إلى السادسة مساء كنت أنا ورفيقي أمام قطعة اشبه بالخرابة يتناثر فيها مجموعة من الشماسة كل مشغول في عالمه هنالك من كان يعمل وآخر يستنشق قطعة مليئة بالسليسيون، كانوا في أعمار متفاوته تتراوح مابين الحادية عشرة إلى الثلاثين، وخلف تلك القطعة المهجورة (خور) عريض يستخدمه الشماسة كخط حماية من حملات النظام العام، فعندما تأتي (الكشه) يلوذون داخل هذا الخور الذي يمتد مباشرة إلى النيل، فلن يستطيع أحد اللحاق بهم، وللخور هذا فوائد أخرى في عالم الشماسة فهم يستخدمونه كواقٍ من زمهرير الشتاء القارس.
مشاهد مؤلمة
وقفت في ذلك المكان المهجور اتأمل كل من كان من حولي، مشاهد تدمي القلوب، طفلة رضيعة تحبو نحو كيس مملوء ببقايا الطعام (الكرته) تفوح منه رائحة نتنة، تحاول أن تتحسسه علها تجد ما تسد به جوعها ووالدتها نئت بنفسها في ركن قصي مغيبة عن الوعي تماما بفعل السلسيون، الكل هناك يعتمد على نفسه (ويجازف) لكي يعيش وأنا مستغرق في تأمل تلك العوالم من حولي، نادى رفيق على أحدهم وأخبره بأن يخبر المعلم بيل أن ضيوفا في انتظاره ذهب بسرعة البرق وعاد بعد بضع دقائق ليخبرنا بأن المعلم يغط في نوم عميق، أخبره رفيقي بضرورة أن يستيقظ لأمر مهم وعاجل بعد دقائق من الانتظار حضر إلينا المعلم.
قطعة جمر
شاب في ريعان الشباب نحيف الجسم تبدو عليه علامات الإعياء جاءنا يترنح وعيونه ينبعث منها الشرر محمرة كقطع من الجمر القى علينا التحية، أخبرنا من كان يقف بجانبه أنه فنان لا يضاهيه أحد سوى الدكتور، والدكتور هذا أحد رموز الشماسة المرموقين مسكون بالإبداع، ولكن صادف تواجدنا مغادرته إلى الخرطوم في مهمة غير معلومة.
موهوب ولكن
طفق المعلم بيل يحدثنا عن موهبته في الرسم وأن لا أحد يضاهيه، ودعانا لمعاينة معرضه الذي يقع شرق الخرابة التي يقطن فيها ذهبنا وأشواقنا تتدفق كما الشلال لرؤية ما يصنعه بيل من إبداع كانت الرسومات تتناثر على جدران خرابة تطل على الشارع المؤدي إلى صينية الزعيم الأزهري، ومن الوهلة الأولى اكتشفت أن المعلم بالفعل مبدع حتى النخاع، ومعظم الرسومات التي خطها بريشته كانت تنم عن موهبة حقيقية ينقصها الرعاية والاهتمام ومعظم الرسومات تعبر عن واقع معاش وصور واقعية.
إحساس بالأشياء
ولأن العامل النفسي يعد المكون الأساسي للإبداع فمعظم رسومات المعلم بيل كانت عبارة عن إسقاطات لكل ما يجيش بدواخله وربما تكون تنفيس لقلق داخلي ينخر في دواخله أو رفض لواقع أجبر أن يعيشه أو تعبير أن أحلام مؤجلة ما كان لها أن تتحقق في ظل واقع مرير, ونحن نتأمل إبداعات بيل شاركنا المارة في الدخول إلى عالمه وهم ينظرون باندهاش وكانت أعينهم تنطق بالعديد من التساؤلات كل هذا الإبداع صدر عن هذا الشخص.
مواهب نادرة
وإمبراطورية الشماسة تضم عشرات المواهب من أمثال بيل في شتى ضروب الإبداع، هنالك من يجيد الرسم وآخر يبدع في مجال الرقص والغناء والنحت، ولكن الظروف التي يواجهونها حالت دون تطوير قدراتهم وتنميتها وبالتالي بقوا على فطرتهم التي نشأوا عليها.
والاقتراب أكثر من عالمهم يجعلك تكتشف صفات إنسانية نادرة رغم شراسة طباعهم فهم متكافلون إلى حد بعيد يقتسمون اللقمة ويقفون مع بعضهم عندما تنزل عليهم المحن، وفي بعض الأحيان يتعاركون مع بعضهم البعض لأسباب تافهة، كأنهم لم يعيشوا في مكان واحد، ومعظم المشاحنات التي تنشب بينهم يكون سببها تعاطي السلسيون الذي يغيب وعيهم تماما ويجعلهم أن يأتوا بتصرفات لا يحسون بها وعندما يعودوا إلى وعيهم تجدهم مع بعض كأن شيئا لم يكن.
الفارة دقس
تعامل الشماسة مع شخص خارج محيط مجتمعاتهم فيها الكثير من التحفظ، لأن الشخص الذي يأتي من الخارج يعتبرونه متعديا لخصوصيتهم، وربما يجلب لهم (الهوى)، ويطلقون على كل من لا ينتمي إلى مجتمعاتهم (الفارات) وإذا تعدى شخص بالخطأ على إمبراطوريتهم يهبون عليه هبة رجل واحد، وهم يرددون (الفارة دقس) لذا وضعت هذه النقطة في اعتباري وأنا اخترق تلك العوالم، فحاولت بقدر الإمكان اكون محل ثقتهم وإذا ما كسبت هذه الثقة سأكمل مهمتي على أكمل وجه.
تقديس الكبير
أول ما لفت نظري في العالم السري للشماسة تقديسهم للكبير وطاعته طاعة عمياء واحترامهم للقوانين التي تحكم إمبراطوريتهم، فالكل يدرك واجباته تماما ويرضخ لتلك القوانين وعلى سبيل المثال إذا قام أحدهم بعملية سرقة فالمسروقات تسلم للمعلم وهو بدوره يقرر تسليم الغنيمة بالشكل الذي يراه مناسبا، وفي هذا نقطة في غاية الأهمية الشماسة بطبيعتهم يحترمون العهود والمواثيق، قال لي مرافقي إن عربة أحد الأشخاص تعرضت للسرقة بالقرب من إمبراطورية الشماسة، فجن جنون الرجل فما كان منه إلا وأن ذهب إلى المعلم، وبعد عشر دقائق عادت له المسروقات مع اعتذار لطيف.
لغة الرندوك
وللشماسة لغة تميزه تعرف بالرندوك يتخاطبون بها وقد انتقلت هذه اللغة إلى الشباب بل وصلت مدرجات الجامعات وباتت هي اللغة المحببة وسط شباب اليوم، فهم يطلقون على الجنيه (الكلب) والقروش (الكنجالات) والمحبوبة (اللقوية) وغيرها من المصطلحات التي باتت شائعة بين عامة الناس.
هواء طلق
ومن خلال زيارتي المتكررة للعالم السري للشماسة اكتسبت ثقتهم وجلست معهم في الخرابة وادرنا حوارنا على الهواء الطلق، كانت عيون المارة تترصدنا ويقتلها الفضول جلست مع المعلم بيل وأركان حربه بعد معاينة رسوماته وما ينتجه من إبداع أول ما لفت نظري تلك الشفافية التي تحدث بها المعلم وهو يشرح واقعهم المرير، أحسست أنه رافض لذلك الواقع ولكنه مرغم للعيش فيه.
شئ من الغبن
كانت عبارات المعلم بيل فيها شئ من الغبن أحسست ذلك من نبرات صوته لا يعرف شيئا عن تاريخ ميلاده غير أنه ولد في الخرطوم، ولا يهمه الماضي ولا يعنيه المستقبل بل يقبض على زمام اللحظة الراهنة التي يعيشها بكل تفاصيلها، واللحظة عنده لا تقدر بثمن وقمة سعادته بحسب روايته لي أن يتناول وجبة سمك من الموردة ثم يغتسل من البحر ويستلقي على شطه بعد أن يستنشق السلس ليسبح في خياله ويسافر في عوالم بعيدة لا يشقيه البحث عن رزق ولا يلهث وراء لقمة العيش إذا وجد سيأكل وإن لم يجد سيأتي الفرد بكيس المعلم محملا ببقايا الأطعمة من الكوش والمطاعم.
لحظة عابرة
الحياة عنده لحظة عابرة يجب أن تعاش بكل تفاصيلها، ويؤمن بأن الفرصة لا تأتي مرتين فإذا هبت الرياح يجب اغتنامها على الفور، حواري مع المعلم بيل مر بالعديد من المنعرجات تأتي لحظات يضحك فيها ملء شدقيه ولحظات يعترينا الصمت ونعجز فيها عن التعبير غير أنني كنت مستمتعا بالساعات التي قضيتها في عالمهم تحدثنا فيها عن كل شيء فقط تابعوني في الحلقة القادمة لأروي لكم ماذا قال لي بيل عن تلك العوالم المدهشة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى