مذكرات طبيبة مغترب بقلم/ اشتياق آل سيف
حين أكتب عن الطب كأرقى وأعظم وظيفة إنسانية، فلا أملك إلّا أن أضعكِ نصب عيني ولا يمكنني تخطّي تلك الحدود الأساسية التي يقوم عليها سردي ويستهدفها مقالي والتي من أبرزها ما يتعلق بتكوين الجسد البشري وقوام الروح الإنسانية، وكم أننا نبخس نعمة الصحة حقّها من التقدير والشكر لمن منحنا إياها.
حين أغرق في سردي عن حكايات الأجساد الموجوعة والأبطال الذين يرتدون ألوان النقاء والبراءة وألوان البحر والطبيعة، أولئك الذين يواصلون الليل بالنهار حتى لا تُرى أعينهم التي تكون خلف النظارات المكبّرة، حين أكتب عن مواقع الآهات التي تغلف بالدعوات والآلام التي يتحايلون عليها بالأحلام بجمال قادم في الأمام، حين أغمس سنان قلمي في محبرة هذا الحقل الذي لا تقوم حياة الناس ويستقيم أودها، إن لم يوجد أو كان موجوداً لكنّه ضعيف كجسد أهمله صاحبه حتى تهالك وهوى، حين أكون أنا في هذا العالم أشعر أنني أنتمي إليكِ، بل أكتب إليكِ ويدفعني الحنين أن ألتقيك وأغرق في جمال عالمك رغم رهبته وسطوة الألم الذي خلقه من أوجد الداء وأوجد له الدواء.
لأنني أعشق هذا العالم الذي لا بُدّ أن يكون فيه كلّ شيء ناصع البياض، أشتاق إليك يا طبيبتي الماهرة.
اليوم لن أكتب عنك كطبيبة وحبيبة، بل سأكتب عن إحدى مريضاتك التي لا تثق بأطباء العالم قبل أن تسألك وتطمئنّ لتعزيز كلامك واتخاذ جميع الاحتياطات، أنت من تجعلين من العلاج وتخطّي مصاعب المرض كرحلة آمنة بها من الغموض والتشويق والتحدّي ما يجعل المريض يتقبّل وينتظر ويأمل دوماً بحالات أفضل.
أنا لم أكن يوماً متواجدة في مشفى أنت فيه الطبيبة، لكنّي أشعر بأنك المعالج الأساسي لكلّ تاريخي المرضي.
ليتك معي تقاسميني ساعات يومي الذي أقضيه في أحد مستشفيات القطيف تتناولين شكواي المرضية وتبصرين جوانبها وتقررين وضع حدّ معاناتي الجسدية تماماً كما تفعلين في وجداني الذي يزهر بوجودك وبروحي التي تتفتح أوراق ورودها بوجودك، أبهجي قلبي برؤيتك وعودتك من بلاد الوجوه المكفهرّة والأخلاق الباردة كالصقيع وأهلي بدفء مشاعرك على صحراء قلبي، وأطربي نبضاته بصوتك الذي لا أكتفي من سماعه ولا أعجز عن شوقي إليه.
حبيبة قلبي أنت ولا سواك، وقمري الذي ينير ليل العتمة وترياق أوجاعي، أنت تلك اليد الحانية التي تربّت على آلامي فتشفيها بحب لا يشبهه حب؛ لأنه انصهار الروح بالروح وقد بدأت حكايته قبل ثلاثة عقود ولن تصل لتاريخ الانتهاء.
أنا في أكثر الأماكن التي تذكرني بك لطول عهدك بها، تلك البقعة الباردة لخلوّها من حيوية السعادة وتلك الآهات التي تضج بها أقسامها فتحيلها إلى نواقيس تدقّ أجراسها على منصة عظمة وإبداع الخالق وكرم ضيافته ولآلئ نعمه حيث تنجلي كنوز عطائه التي تعتبر حلية العافية وتاج الصحة من أعلاها شأناً وأهمها لتماسك أركان سعادة الإنسان.
منذ زمن طويل بحساباتي لم أكتب فيه عنك، لم أستكمل سردي لأيامي الجميلة معك حتى وإن كان الألم هو ما يلحّ عليَّ بذكراك ويجعل حضورك طاغياً وإن أحاطت به أوجاعي.
هل تعلمين يا وردتي أنّ هذه الأيام التي أصبح فيها رهناً في قبضة المستشفيات وأجهزتها الطبية المعقدة وتحت قيد إجراءاتها الرهيبة، إلّا أنني أشعر كمن ذهب رحلة في عالم مجهول يتسلّح فيه بالأمل ويضيء طريقه بالتوصل على الله وحسن الظنّ بكرمه، كان ذلك لجميل تهيئتك لأيّ مريض في العائلة أو مصاب ألم به ما أعمل جسده به تتقنين رفع المعنويات وشحذ العزيمة واستبدال التشاؤم والاستسلام لشكوى الألم والضعف بمنظار الأمل والتفاؤل وإشراقة الحياة السعيدة.
أنت نعمة عظيمة في شكل طبيبة حكيمة، ورحمة واسعة في جسد ابنة رائعة، وأخت حنونة بمشاعر صادقة أمينة.
إكليل من ورود التقدير أنثرها على هامات أولئك الجنود المجنّدة لرعاية ذوي الأجساد العليلة.
كلّ الحب لكلّ من ارتدت رداء الإنسانية، سواء أكانت طبيبة معالجة، أو ملاك الرحمة من طاقم التمريض.