مقالات

محمد عبدالقادر يكتب من بورتسودان: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء “حكومة الأمل”..

ويسألونك عن كامل إدريس (1)

الحُفيّان ليس ذلك “السوبرمان”

(1)
زرتُ بورتسودان خلال الفترة الماضية، وأمضيتُ بها أياماً موّارة بالحراك والتنقّل بين أنشطة الدولة ولقاء المسؤولين وتفقّد الأهل والأصدقاء وأوضاع الناس..
عُدتُ منها وشمسها لهب، وكالعادة (الكهارب قاطعة)، لكن الحياة تمضي فيها بوتيرة الأمل التي أشعلها في الفضاء السياسي والاجتماعي الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء، وقد اخترتُ أن أكون في معيّته وبالقرب منه خلال فترة التخلّق الأولى لحكومة الأمل.
لم أكن مُتخفياً مثلما وصفني بعض الزملاء، ولكني أجزِم أنّ لا أحد يعلم عن زيارتي أو أيام إقامتي وتنقّلاتي شيئاً، ليس خوفًا، ولكن بالنسبة لي لم يكن الاقتراب من رئيس الوزراء “قشرة ولا بُوبار”، ولا مناسبة لـ”حصد التريند”، وإنما “مهمة عمل” لا يعني أمرها الآخرين، إلا بما تُنتجه من محتوى يُفيد الناس والعامّة.
لذلك لم أجنح للتسريبات أو ألفِت الانتباه بوجودي مع رجلٍ كانت كل “الكاميرات” مصوّبة باتجاهه، وقد استوعبتُ ما كان يُريد طرحه لدرجة أنه ألحَّ في ترشيحي للزملاء في تلفزيون السودان حتى أكون ضيفًا على تحليل “برنامج حكومة الأمل” يوم خطابه الشهير، الأمر الذي حدث بالفعل، ثقةً في أنني أتسم بحياد يُريحه “حسب قوله المُقدّر عني”، وأن بإمكاني تناول الأمر بما يُفيد الناس قبل أن يُلمّع برنامجَه في الوزارة.

(2)
الأهم عندي، وطوال مسيرتي في العمل الصحفي، “استشعار المسؤول أنك على مسافة واحدة بينه وبين الرأي العام، بلا تزيين يطمس الحقائق، أو تطفيف ينحاز للحاكمين على حساب الشعب”.
ما بيني وبين كامل علاقة بدأت قبل ستة وعشرين عاماً، وقد كنتُ الصحفي المُكلَّف بواسطة أستاذي الراحل، رئيس تحرير “العزيزة الرأي العام” إدريس حسن، بتغطية تفاصيل اللقاء الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، والذي رتّبه كامل إدريس آنذاك بجنيف بين الراحلَين العظيمين، رحمهما الله، الدكتور حسن الترابي، والإمام الصادق المهدي.
علاقتي مع د. كامل قائمة على مودّة واحترام وتقدير، كان يدعم اختيار الرجل (كلّما لاح) لتسنُّم موقع رئيس الوزراء، ولم نحد عن مؤازرتنا له حتى تمّت تسميته، فكان من الطبيعي أن تُشدّ له الرحال، لا لتهنئته فحسب، فمثل هذا الموقع في السودان لا تجوز معه عبارات التهنئة على الإطلاق، وإنما الدعوات بالثبات والصبر والإعانة على المهام والابتلاء… وقد رأينا أن نُعينه بالنصح والمشورة حول ما يطلبه المواطنون.

(3)
أمّا إذا سألتني عزيزي القارئ عن د. كامل إدريس، الذي غادرتُه دون أن يمنحني منصباً ولا حظوةَ سلطة، وما ذهبتُ طالباً شيئاً، فهو “سوداني ود بلد”، يفيض سماحةً ويمتلئ اعتدالًا، تُقرّبك منه وسطيّةٌ مريحة، وتسبقه إليك منه بساطة، واحتفاءٌ يُبذله للجميع حتى الخصوم…
وأذكر كثيرًا أنه سألني عن أسماء كانت تُهاجمه، ولمستُ أنه لا يحمل لها غير الخير، فكامل – مثلما أقول له ولمقرّبين منه – “طيب ومتسامح زيادة عن اللزوم”، به زهد وتصوّف، فهو إلى جانب مسحة الحداثة والفرنجة البائنة على سِمَته ومظهره المرتب الأنيق، لا تُخطئه أصالة السودانيين وعراقة سيمائهم ووقارها،وإني قد تعجبتُ كيف احتفظ الرجل بهذه السودانوية في “المظهر والجوهر”، رغم طول إقامته في “الغرب”، الذي نهل من علومه ومعارفه طالباً غَضًّا، وتحول إلى أستاذ في جامعاته ناضجاً، وعمل في أرفع مؤسساته الدولية مديراً ومسؤولًا أول، وكبيرًا…
عاش د. كامل في الغرب، لكنه احتفظ بالسودان، خرج عن الوطن، لكن البلد بسماحتها وأهلها وناسها لم تُغادره، حتى جاءها رئيسًا للوزراء.

(4)
اخترتُ مع صديقي وأخي الأصغر محمد جمال قندول، الصحفي النابه و”الشاطر”، وأحد المُبشّرين الأساسيين بحكومة وتجربة د. كامل، أن لا نُكلّف الدولة حتى عناء “قطع التذكرة”، ذهبنا على نفقتنا الخاصة وهبطنا بورتسودان، وتجربة الأمل “تتخلّق” و”الحكومة” في طور المشاورات واللجان والتسريبات التي أضرّت كثيرًا بمسيرة د. كامل وما زالت… وهذا أمر يحتاج لمعالجة.

(5)
وجدنا مكتب د. كامل وقد أحاط به جُندٌ من المُهذّبين: السفير بدر الدين الجعيفري، ود. نزار، ود. حسين الحُفيّان، وشاب المراسم المهذب “سيد”، والمُخلِص “يونس”، يبذلون قصارى جهدهم في ترتيب الأوراق وتهيئة الأجواء حول رئيس الوزراء، يُمهّدون له الطريق لـ”نزول الملعب”، وخوض المباراة، وإحراز الأهداف، “أولاد ناس محترمين” تكاد تُشفِق عليهم أحيانًا من “فيض الأدب والتهذيب”، فالعمل العام يحتاج أحيانًا إلى “شِدّة وجلافة” من المطلوب أن تتوافر لهؤلاء الشباب مع استمرارهم في تجربة إدارة مكتب د. كامل.
“د. حسين الحفيان” ليس ذلكم “السوبرمان” المُتنفّذ والآمر الناهي الذي صوّرته الميديا، هو رجل طموح وصاحب رؤية، يُبدي مشورته ويتقبّل النصح والآخر، فاختيار الوزارة لا يخضع لأمزجة الأفراد، وإنما يمر عبر لجان كنتُ شاهداً على انعقادها، واختبارات تابعتُها، وقنوات اختيار مُحصّنة من الوساطات، وهذا يُفسّر أن أسماء لا صلة لها تم اختيارها للوزارة، ولم تكن على صلة بدكتور كامل أو أي من أفراد طاقم مكتبه.
لا يبدو أن هناك تأثيراً من قِبل الفريق أول عبد الفتاح البرهان أو أعضاء مجلس السيادة الذين آثروا الابتعاد عن أجواء اختيارات د. كامل، وحينما ثار الحديث عن “شتيمة” د. معز عمر بخيت الذي تم اختياره “وزير صحة” للجيش في قصائد منشورة، كان د. كامل يبتسم ويردّد: نعم، وارد، لكن الحكومة لا يُسمّيها أهل الجيش،لحظتها كان المغزى واضحاً من الاختيار، وهو ابتعاده عن دائرة العسكر.

(6)
تابعتُ الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء القادم لتوّه آنذاك، وهو يجتهد في “هندسة مشهد الأمل”، رأيتُ كيف انعقدت اللجان وانفضّت، ووقفتُ على كمّ طلبات التوزير، والملفات التي استقبلها مكتب الرجل، ووقفتُ على حراك الاجتماعات المغلقة والمفتوحة داخل فندق القراند ببورتسودان.
من خلال مجالستي مراراً مع د. كامل، لمستُ أنه يقف بالفعل على مسافة متساوية من الجميع، يحب السودان بيمينه ووسطه ويساره، ويفيض في الاحترام كلما اقتربت المواقف من القضية الوطنية.
يتحدث عن الإسلاميين باحترام كبير، ويُجزل تقديرًا للإسهام الوطني لـ(غاضبون) وفصائل الثورة التي تقدّمت معركة الكرامة، يحب الأنصار والختمية، والهلال والمريخ، ولديه تقدير لكل من انتسب للقوات المسلحة، مُحب لشيوخ ورايات الطرق الصوفية، مهموم بأحوال الناس، وزاهد في ما يمكن أن يجنيه كل من يرتبط بمثل هذا الموقع في السلطة.

نواصل…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى