مقالات

للحقيقة لسان – رحمة عبدالمنعم – أهل الفاشر.. بأي ذنبٍ قُتلوا؟

منذ مساء الإثنين وأنا أعيش حالة حزنٍ لا تُشبه ما سبقها، حزنٌ يثقل الصدر كأنّه جبلٌ من رماد، لم أذق طعم النوم، ولم أستطع أن أشيح بعيني عن صور أهلي في فاشر السلطان – شنب الأسَدّ أدّاب العاصي، المدينة التي صمدت، وقاومت، وعلّمت الدنيا معنى الثبات، سقطت تحت أقدام من لا يعرفون معنى للرحمة، بعد انسحاب قوات الجيش والقوات المشتركة التي ظلت لأشهر تحميها من الجحيم.
في لحظة واحدة تغيّر وجه المدينة، لم تعد الفاشر تلك المدينة المنيعة التي تتكئ على تاريخها المجيد، بل تحوّلت إلى مسرح مفتوح للقتل والدمار، وإلى مشهدٍ يعجز اللسان عن وصفه،دخلت مليشيا الدعم السريع وهي تحمل رائحة الموت، ومعها تبدأ قصة أخرى من الحزن السوداني، لا تختلف كثيراً عن قصص دارفور القديمة التي لم تندمل بعد.

ما رأيناه – وما نُشر على مواقع التواصل – لا يحتاج إلى تحقيقٍ أو نفي، فالمقاطع تتحدث، والرصاص يتكلم، والضحايا صامتون في قبورهم،مشاهد يُظهر فيها أحد القتلة، ويدعى عبدالله إدريس الشهير بـ (أبو لولو)، وهو يبتسم في وجه مدنيين أبرياء، يسألهم بهدوءٍ متصنّع، ثم يطلق النار عليهم بلا تردد،يقتلهم كمن يقتل ظلاً، بلا إحساسٍ بالذنب، وكأنّ أرواح الناس أصبحت ألعاباً في يده.

بأي ذنبٍ قُتل هؤلاء؟ هؤلاء الذين عاشوا الحصار، وجاعوا، وخافوا، لكنهم ظلوا مؤمنين أن صباحاً قريباً سيأتي،هؤلاء الذين لم يحملوا سلاحاً، بل حملوا أطفالهم بحثاً عن لقمةٍ أو ماء، هؤلاء الذين واجهوا القصف والجوع بصبرٍ نادر، فكان جزاؤهم رصاصاً في الرأس على يد من احترفوا القتل والنهب والسلب.

ليست هذه الجرائم جديدة على مليشياٍ قامت على فكرة الفوضى والسلب. فهم لم يعرفوا معنى للوطن ولا شرف المقاتل، يقودهم المجرم حميدتي وشقيقه المعتوه عبدالرحيم، ومن خلفهم شلّة خيابةٍ تُسمّى زيفًا بـ”حكومة التأسيس” من التعايشي ونقد والميرغني، الذين وجدوا في الدم وسيلة للسلطة المزعومة، هؤلاء الذين صفّقوا للدم، ورقصوا في نيالا بينما كانت الجثث تُدفن في تراب الفاشر.
لكن كما قال القائد العام الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان في خطابه للأمة: سنقتصّ من هؤلاء المجرمين، وإن نصر الله قريب، كلمات لم تكن شعاراً بل عهداً، لأن ما جرى في الفاشر ليس معركة عسكرية، بل امتحان أخلاقي وإنساني، يحدّد من يستحق أن يُسمى سودانياً، ومن خرج من دائرة الإنسانية.
ولم تكن الفاشر وحدها. قبل أيام فقط شهدت مدينة بارا مجزرة أخرى راح ضحيتها شبابٌ في ريعان أعمارهم، دخلت المليشيا المدينة كما يدخل الجراد الحقول، أحرقت، ونهبت، وشردت الأهالي، وحوّلت المدينة إلى ساحة موت مفتوحة، دماء الأبرياء في بارا والفاشر واحدة، وصراخ الأمهات واحد، والفاعل ذاته.
هؤلاء القتلة لا يمكن التفاوض معهم، لا يجلس على طاولة المفاوضات من لا يعرف سوى لغة الدم،هؤلاء متجردون من القيم، بلا دينٍ ولا ضمير، ولا يمكن أن يكون لهم موطئ قدم في مستقبل هذا البلد،على القيادة أن تمضي في طريقها بثقة، وأن تفتح أبواب التجنيد والاستنفار، لتواصل قواتنا المسلحة عمليات التحرير في كردفان ودارفور حتى آخر بقعة، وحتى آخر طلقة.

أما المجتمع الدولي، فحديثه عن “القلق” و”الإدانة” بات سخيفاً، العالم يرى ويسمع ويكتفي بالبيانات، لم يتحرك أحد حين كانت الأمهات يصرخن، والأطفال يُقتلون، والمدن تُباد، وكأن دم السوداني أرخص من أن يُذكر في مؤتمراتهم.
يا أهل الفاشر… يا من صمدتم في وجه الحصار والجوع والقصف، اعلموا أن الوطن لم ينسَكم، وأن كل بيتٍ سوداني يبكيكم اليوم، ما حدث ليس نهاية الطريق، بل بداية الحساب، وسيدفع المجرمون الثمن، طال الزمان أو قصر، لقد علمتنا هذه الحرب أن نعرف من هو العدو، ومن هو الصديق، ومن يستحق أن نحمل له السلاح دفاعًاً عن الأرض والعِرض.،وها نحن نعيد رسم حدود الكرامة بالدم، لا بالحبر.
الفاشر لم تسقط..الفاشر سقطت لتنهض..ولن تُمحى من ذاكرة السودان ما دام بيننا من يكتب، ومن يقاتل، ومن يؤمن أن المعركة لم تنتهِ، وأن زحف الجيش ماضٍ، وأن النصر قادم لا محالة كما حدث في سنار والجزيرة والخرطوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى