منصة عطاءات السودان tender.sd عطاءات السودان
منوعات

لا تتركيني أنطح الجدار- قصة قصيرة- بقلم: ابتسام شاكوش

لا ، لن اعتذر لك
أتعتقدين أني لا أبالي بفقدك ؟ أبدا يا امرأة ، أنا في غاية الغيظ والقهر أكاد أقتل نفسي حزنا واسفا رغم ذلك لن أعتذر ، الاعتذار انحناء ، هكذا تعلمت منك ، ألم تؤكدي أنك ترفضين الانحناء ؟ كيف أستردك إذا ؟ لست أدري ، من تراه يدري ؟ أيضا لست أدري .
تعالي ، عودي إلي ، ضعيني حيث تشـائين ، أو أرجعيني إلى المكان الذي كنت فيه قبلك ، أعلى قليلا أو أدنى لايهم ، أريد مكانا لي على أرض الواقع ، سأحرم على نفسي الاحلام، لن ارفع قدمي عن الاسفلت بعد اليوم سأجرهما جرا ، سأمشي كما السيارات على عجلات ، أو القطارات على سكة مرسومة بدقة متناهية ، ومرسوم بأدق المقاييس البعد الفاصل بين قضبانها.
نفخت في الغرور ، حتى تخيلت نفسي فوق البشر ، كبرت تضخمت طرت ، نعم طرت ، تحولت الى بالون كبير ، نظرت الى الاسفل ، خلت العالم يعيش في ظلي ، وفجأة سحبت الشمس ألقيتها تحت قدمي ، لا ، رفعتني إلى مستوى الشمس فارتمى ظلي الهائل على كل أمجاد الأرض ، من غياهب الماضي حتى سراب المستقبل ، الآن ، وبسرعة لاتوصف ، أوقفتني تحت الشمس الحقيقة الساطعة ، تحتها تماما ، حتى صار ظلي المتشكل من أشعتها العمودية على رأسي لايكاد يغطي حذائي ، عاد الضياء ليغمر العالم وظهرت المرئيات بألوانها الطبيعية ، الحقيقية ، خالية من أي أثر يدل علي .
فتحت عيني على حسنات نفسي أقنعتني أني مظلوم ، وأن الناس من حولي في عمى عن محاسني ومواهبي سحبت عيوبي التي أحاول اخفاءها وضعتها على بساط البحث ، أقنعتني أنها أمور عادية ، ولكل امرء عيوبه .
في البداية استمعت إليك ، صورتني بشكل يناقض حقيقتي ، ضحكت كثيرا في سري من غبائك ، من سخافتك وقصر نظرك ، لكن اللعبة أعجبتني ، هذه المرة هي الاولى التي أقف فيها أمام إنسان ينظر إلي باتجاه الأعلى ، راقني حديثك أعجني وصفك لي ، لما فارقتك ، ظلت كلماتك الهامسة تترجع في مسمعي ، تملؤني سعادة حتى ما لبثت أن صدقك ، صدقت كل ما قلته عني ، بل اقتنعت تماما بأني اكبر مما تصفين ، رحت أبحث في عيون المحيطين بي عن ظلال لكلامك ، كيف أقنعتني ؟ من أين تأتين بكل هذا الكلام .
صدقتك ، حاولت أن أحذو حذوك ، بحثت عن عيوبك وتهيأت لصفعك بها ما كنت أدرك أنك تحتفظين بطرف خيطي في يدك ، حين أدركت سوء نيتي سحبت الخيط ، نكأت الجرح ، وأنا ؟ ماذا عني أنا ؟
بلحظة واحدة ، أمام كلمة وإشارة منك نزفت كل ما حقنتني به من الغرور ، بعد كل ما كان بيننا تشيرين بسبابتك إلى قائلة :
ـ ماهي مؤهلاتك ؟ ماذا عندك يغري امرأة مثلي ؟
ـ هذه كلمة كبيرة ، سأحاسبك عليها .
ـ متى ؟
ـ حين نلتقي ،
( بعد اليوم لن نعود فنلتقي )
ـ لن نلتقي ؟ الآن ؟ تصدرينها كأنها أمر عسكري غير قابل للنقاش ، لن نلتقي بعد أن أفرغت نفسي من كل أمل إلاك ؟ بعد أن طردت من حياتي كل امرأة سواك ؟
في الحقيقة ماكان لدي نساء ، حتى ولا امرأة واحدة ، كنت أحاول استدراج أية فتاة للتحدث معي ، ألقى نفورا حادا يجرح كبريائي وكرامتي إلى أن ألتقيك ، أنت المرأة الاستثنائية التي عافت رجال الارض وأحبتني لذلك كنت استكبر على نفسي حبك ، وغير واثق برغم كل المعطيات من ديمومة هذا الحب ، تقولين أحبك ، فأسألك إلى متى ؟ تقولين حتى تنحني ترفقينها بضحكة مجلجلة ، تخلطين فيها الجد بالهزل ، فتأخذني العزة بالحب وأقسم ألا أنحني ، لك، إلى متى ؟ والبوابات المؤدية إلى فرص العمل وإلى الاعتراف بانسانية الانسان تمر كلها من بين سيقان من يملكون ؟
كانت مرة واحدة ، واحدة فقط ، تلفت حولي فلم أرك ، ولا رأيت أحدا يمكنه نقل الصورة إليك ، انحنيت ، لم يكن ذلك كافيا ، انبطحت ، أجل انبطحت ، ثم تقدمت للزحف والعبور من بين قدمي حضرته ، سارع أزلامه فأدخلوني قالب الانتظار ، انتظرت ، بقيت منتظرا حتى تيبس جسدي واخذ شكل القالب ، أفرجوا عني ، أسرعت إليك جئتك جبوا ، لأن قامتي التي كنت تعرفين ، ماعادت قادرة على الانتصاب ، رميتني بنظرة تنضح بالأسى واشحت ، استصرختك ، استرحمك ، لافائدة ، كلمة واحدة قذفتها في وجهي هي الموت ذاته ، قلت لي : كسرت الموازين ، أأنا من كسرها ؟ أأنا من أقامها ؟
كنت في لحظتها أغلي من غيظي ، أحترق من مس هموم أعرف بعضها وأجهل الباقي ، أردت ، بل حاولت أن أثور أمامك لأفرغ قليلا من شحنة انفعالي, أجبتني ببرود ابحث عن نفسك, فان وجدتها حاول أن تحبها, وان تصالحت معها ابحث عني. .
أبحث عن نفسي ؟ أين أبحث ؟ عشت ماعشت متصالحا مع ظروفي ، ماكنت اشعر قبلك أن لي نفسا أعيش بها ، كنت منجرفا في تيار الحياة كخروف في قطيع ، يمشي القطيع كله منكس الرؤوس ، وأمشي أنا ، أرفع رأسي بين حين وآخر أنظر إلى ظهور رفاقي ، إلى العصا تعلو تهبط فوقها فأندس في الزحام ، أسمع نباح الكلب ، أخاف الكلاب أدخل وسط القطيع ، أختبىء بضجيجه لأحمي مسمعي من النباح وظهري من العصا ، أرفع رأسي من جديد ، أتيه فخرا على الرؤوس التي تلامس الأقدام ، وأنا وحدي شامخ كالديك .
قبلك كنت أنام وأصحو ، أعمل وأرتاح ، أتحدث ، بآلية محضة ، كنت أضع الخطط التي أكمل بها حياتي العادية ، الهامشية ، إلى أن وجدتك ، كنت أعتقد أني أحب نفسي ، أحب نفسي أكثر من حبي لأي شخص آخر ، والآن يبدو لي أنك أنت نفسـي التي أحبها ، وأعيش بها ، ولها ، في بعدك أكره الحياة أكره الماء والهواء ، هل تدركين ذلك ؟
ماذا وجدت في حتى أحببتني كل هذا الحب ؟ ماذا أكتشفت حتى نفرت بهذا الشـكل المرعب ؟ تقولين ابحث عن نفسك ؟ لن ابحث عن نفسي ، سأبحث عنك ، لكن أين ؟
ساعديني أرجوك ، أتوسل إليك ، فمنذ تخليت عني ، مازلت أنزوي في ركني المظلم ، أعتزل الناس أنقطع عن الكلام ، أقفل فمي ، وتخرج ـ رغما عني ـ بعض الكلمات والاحتجاجات فيدوي صوتي وسط الظلام ، وأصحو من وجومي لأبترها ، لأبتر كلمة الرفض قبل أن أسمع نفسي ترى ماذا أرفض ؟ ماذا أتمنى ؟ اختلطت لدي المعايير ، حتى ماعدت أدرك : هل أرفض وجودك في حياتي ؟ أم أرفض حالة الاستلاب التي أوصلني إليها حبي لك؟ هل أتمنى الشفاء منك أم أتمنى عودتك ؟
في النهاية أبقى سادرا في صمتي ، أنبش أحقادي ، أنبش ذلي وقهري أضعها على طاولة البحث ، أقلبها على كل وجوهها ، أعيد ترتيبها ثم ابتلعها من جديد ، لأخرج على الناس بوجهي الذي يعرفونه ، وجهي الذي ينبىء من يراني باني في أعلى درجات الثقة بالنفس ، وأن الهموم لاتعرف طريقا يؤدي إلي ، وأبحث عن أضيق الفرص لأبتعد من جديد ، وأعيد حساباتي في محاولات يائسة لاقناع نفسي بأن مايجري شيء عادي ، وأن هذه النهاية طبيعية ولكن …..
في كل مرة أعود فألعن نفسي ، أذكر تفاصيل مادار بيننا ، وما يلوح في الأفق أنه لن يحدث أبدا ، صرخت في وجهك يومذاك : أنت لاتفهميني ، أريد امرأة تفهمينني ، عبارة سخيفة ، اكثر مني سخفا وحمقا وغباء ، أرددها كلما لمست بيدك أو بكلمتك ما جهدت لاخفائه حتى عن نفسي ، أعلم أنك سبرت أعماقي ، دخلت إلى أدق التفاصيل من خلجات غبائي ، وأنا أعترف ، بأني لم أتمكن من تفسير ظواهرك المدهشة ولا لمست شواطىء روحك الوثابة وأعماقك السحيقة الخفية ، كيف حدث هذا ؟ هل تتعاملين مع السحر والأرواح الخفية ؟لماذا إذا قلبت الفنجان حين كنا معا في المقهى ؟ بسحرك ؟ أم بشعوذتك ؟ أم بعينيك البصيرة استطعت قطع الحلقة التي تحملني ، ثم الحلقة التي أحملها من سلسلة الحياة التي كنت أقف في منتصفها ، أنظر إلى من دوني بازدراء، أعتبرهم حسادا يحاولون الحصول على مثل أمجادي ، أكرههم أمقتهم وأمقت تطلعاتهم ،أما أنا فطموحي دائما مشروع ، ولدي من الأسباب مايكفي لاقناع …. لاقناع من ؟ لاقناعي وحدي ، أنظر إلى من هم فوقي ، أقلد حركاتهم وطريقتهم في اللباس والطعام وكل شيىء حتى خيل إلى أني منهم ، والآن ، بعد أن كسرت السلم ورميت بي حيث رميت ، اكتشفت أني ماكرهت قومي إلا لأنهم يعرفون نقائصي .
كبرت وكبرت وانتفخت حين صدقت كل ما قلته عني ، وكل ماأوحيت لي به حتى إذا ماأصبحت منطادا كبيرا ، حاولت الانفلات من أصابعك ، ورحت أطير مبتعدا وعاليا في الفضاء حتى غدوت عند الناس أتفه من ذبابة ، ماكنت أظنك قادرة على فعل مافعلته في .
أسقطتني ، رميتني في غير المكان الذي انطلقت منه ،أنا الآن غريب تائه ضائع يجهلني الناس وأنا أشد منهم جهلا بنفسي ، أطرق أبواب من كانوا بالأمس خلاني وسماري ، ينظرون إلي باستهجان ويشيحون ، أستمع إلى أحاديث من كانوا أصفيائي فأجدها سخيفة سمجة أين أنا ؟
أبحث عن موطىء لرأسي بين الرؤوس ، عبر إيجاد العمل الذي انبطحت من أجله فلا أجد ، إلا أن الوعد مازال قائما ، أعاود الشموخ من جديد فلا أجد أتباهي عليه بشيء ، خرجت عن القطيع ، وأنا الآن في أوج انكساري ، شموخي وهواني سيان ، لن يشعر بي أحد ، ولن أشعر بنفسي بعد أن كشفت لبصيرتي زيف أفكاري ، عودي إلي ، أرجوك ، ستتركينني ، أعلم أنك سوف تتركينني أناطح الجدار ، في صدري أسئلة كثيرة أود سماع اجاباتك عنها فأجيبيني :
لماذا تحمر الشمس عند المغيب ؟ هل تحمر الشمس خجلا ؟ أم غضبا لأنها لم تجد في دنيانا مايرقى لمستوى طموحها ؟ ماذا تفعل الشمس خلف التلال ؟ هل تموت غيظا وتترك المجال لشمس أخرى تشرق في اليوم التالي ؟ وأنت ؟ هل ستشرقين على رجل غيري ؟ هل ستطلعين على مدينة أخرى تختلف عن مدينتنا ؟ألا تعرض المدينة الأخرى مهملاتهما من سقط المتاع والأحذية البالية على أسطحة منازلها كما نفعل ؟ أم تنشر العرائش وأصص الزهور والأضواء الكثيرة الملونة ؟ هل تحيط جدرانها بأسوار من الجنود والحراس؟ أتراك سوف تتندرين في حياتك الأخرى بما شاهدته على سطوحنا من الكراكيب ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى