منصة عطاءات السودان tender.sd عطاءات السودان
منوعات

قِصَّة قَصِيرة: لَاشَاپِيل – بقلم / تسنيم طه

بأصابع يده اليسرى المتخشبة من البرد، حك رأسه الملفوح بهواء شهر ديسمبر المحمل بالثلوج، مواصلًا للبحث عن إجابة لسؤال لخطيبته:
– يلا قول ليّْ اتعلمتَ شْنُو بالفرنسي؟
ولم يدرِ أي جملة يمكنها أن تفرح قلب الفتاة التي أحبها أربع سنوات قبل التخرج من الجامعة، وأربعة بعدها قبل أن تقنعه بالهجرة لتحسين وضعه وتوفير مهر ومراسم زواج تليق بها.
باضطرابِ، تلفت حوله بحثًا عن إجابة شافية في وجوه جموع البشر المسرعين أمامه:

– إيرانيون يُقرأ في ملامحهم خليطًا حالمًا من أبيات أشعار عمر الخيام النيسابوري وأبو القاسم الفردوسي وحافظ الشيرازي، وآخر غاضبًا من مخلفات ثوراتٍ متعددة ضد نظام الملالي وأخرها ثورة الخميني ضد الشاه.
– أفغانيون تضخ وجوهم أنواع بؤسٍ شتى تحكي عن أهوال نظام طالبان، وتذكر بما فعلوه من تخريب في تماثيل بوذا وغيرها من الازالة الشنعاء لمعالم التراث والثقافة.
– أسيويون منحدرون من إقليم التبت يخفون وراء عيونهم الصغيرة ذكرى مخاوف وصدمات واضطهادات وعنصرية من جانب دولة الصين الحدودية.
– أفارقة مصطفون عند مدخل محطة الميترو يروجون لبضاعتهم الرخيصة من الذرة المشوية على الفحم هاتفين: “مايْسو-مايْسو”.
– فرنسيون مسرعون في خطواتهم ليلحقوا بقطاراتهم، تلهفا لعيش عطلة احتفالاتٍ عيد ميلاد المسيح وأعياد رأس السنة.
– عربٌ، وهنودَ، وأثيوبيونَ، وأريتيريونَ، وسودانيونَ. وهُوَ.

كل هذا الزخم البشري؛ ولم يعثر سوى على تساؤلاتٍ جديدة عن سبب تسرع أولئك الأقوام الدائم، دون أن يدري أهي برودة الجو ما حولت طريقة مشيهم إلى الهرولة؟ أم أنه إيقاع البلد الذي يحسب الوقت بالدقيقة والثانية؟

حك رأسه المتعب مرة أخرى؛ منقبًا عن كلمة يتباهى بها أمام خطيبته. لكنه لم يعثر إلا على قصص البرد والجوع والتشرد والضجر من طول اجراءات اللجوء والاجراءات الادارية للدخول في السيستم الفرنسي؛ لتجتاحه من جديد مشاعر الغضب تجاه خطيبته التي زجت به إلى هذا المصير.
فبعد ثلاثة أشهرٍ من خطوبتهما، أصرت عليه، رغم معرفتها بطرقه لجميع أبواب الوظائف عدة مراتٍ، لأن يترك العمل كسائق “رَكْشَة”، ليتفرغ للبحث الجاد عن وظيفةٍ أسمتها “محترمةٍ” تُدر عليهما الأموال بصورة أسرعٍ. ذلك اليوم سألها، لماذا تفترض أن يكون حظه أوفر من زملائه الخرجين الذين يحاربون شبح البطالة بالعمل في الرَّكْشَات والأمْجَادات، أو في غسيل سيارات موظفي الوزارات بشارع النيل بالخرطوم، فأدهشته باعترافها بأنها ستخجل أن يكون زوجها المستقبلي سائق تاكسي الطبقة الكادحة من المجتمع. فخاف أن يجادلها ليقنعها بشرف العمل أيًا كان نوعه، خشية أن تصدق رأي أمها فيه بأنه ليس الشخص المناسب لتتزوج به.

وهكذا ترك العمل في “الرَّكْشَة”، وأصبح يقضي أوقاته في قراءة إعلانات الوظائف على الصحف اليومية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ويجدد إرسال طلباته لكل تلك الجهات بالبريد وعبر الانترنت، وينتظر، وينتظر دون أن يتلقى أي إجابه على طلباته سواءً بالرفض أو بالإيجاب.
وبعد أن تملكه اليأس، ذهب إلى بيت خطيبته في حي “وَدْ نُوبَاوِي” بأم درمان، حاملًا معه كيلو “باسطة وبسبوسة” ابتاعه من “البيت السوري” ببحري، علّه يُذهب مرارة الحديث مع خطيبته حول خطته الجديدة. فتحت له والدتها الباب، ورحبت به بدون حرارة وتناولت منه كيلو الباسطة وهي تدعوه إلى الدخول قبل أن تنادي على ابنتها.
ولما جاءت الخطيبة المدللة، لم تترك له فرصة لكي يشرح خطته التي ظن أن فيها الخلاص من البؤس؛ إذ لم يكد ينطق جملته الأولى حتى اعترضت بنبرة حازمة تميل إلى الصراخ مستنكرة عليه قناعته بفكرة الذهاب للعمل في سِنَّار مع زوج خالته في زراعة السمسم والذرة. وضع يده بين كفيه ليخفي خيبته من سلوكها، فأسرعت تبرر له خشيتها من أن تصيب الزراعة يديه بالتشقق والجفاف وتفقده وسامته. فامتصت كلمة “وسامة” غضبه، وجعلته يطفو فوق نهرٍ من مشاعر زهوٍ وحبٍ وافتخارٍ، خدرته شهرًا كاملًا قبل أن ترجع الأفكار النيرة للانبثاق من رأسه المتلهف للحصول على حل باي ثمن يعينه على الزواج بفتاته.
فواعدها على كورنيش النيل، وجلس أمامها صامتًا عدة لحظات قبل أن يمسك بيدها بين راحتيه، ويسألها ان كانت تثق فيه، فهزت رأسها ايجابًا، فغمرها بنظرة حالمة ممتنة، وضغط على كفها بحنانٍ ثم أخبرها بقراره الانضمام إلى ابن عمه في كُرْدُفان ليعمل معه، مدة عامٍ واحدٍ، في رعي الضأن، ليجني بعدها أمولاً كثيرة مع انصراف موسم الأضاحي وعودة الحُجَّاج من الحجاز، وقبل أن يكمل شرح آماله التي ستتوسع إذا ما وصل في استثماره مع ابن عمه لتصدير الماشية للسعودية ومصر، سحبت خطيبته يدها من يده، وصرخت بهستيرية:
– هاشم إنتَ جادي؟ عايز تبقى راعي وتنسى شهادتك الجامعية؟
فنكس رأسه ولاذ بالصمت، ليراقب تململها وترددها طويلًا قبل أن تفصح له بخطتها التي أسمتها “خطيرة”، لتقنعه بأن الحل الأمثل هو الهجرة.
ولأنها كانت تعلم أن الحصول على عقد عملٍ في الخليج يفوق صعوبة الحصول على وظيفة في السودان، شرحت له معالم الطريق التي سيسلكها انطلاقًا من الخرطوم ثم ليبيا فإيطاليا ثم فرنسا. فتأملها فاغر الفاه مشدوهًا من حماستها هي تخلع دبلة الخطوبة وزوج أقراطٍ ذهبية عيار 21 قدمتها له وقالت بأنها ستوفر له ثمن المهرب في ليبيا، قبل أن تعود تمسك بيده وتهديه نظرات حالمة وتعده بأنها ستنتظر عودته إليها سالمًا غانمًا لكي يقيما عرسًا تفتخر به أمام الجميع، وشهر عسلٍ في الكاريبي، خلافًا لأشهر عسل قريباتها وصديقاتها، اللاتي لم يبرحن الخرطوم إلا للذهاب والاختباء في فنادق بورتسودان المطلة على البحر الأحمر أو فنادق كسلا المطل على جبال “التاكا” و”توتيل”.
كان يمكن أن يقول لها إنها تهذي، لكنه يحبها ويخشى أن يفقدها. ولولا ذلك الخوف لما كان ليصدق أن الغربة هي الحل الأمثل، ولما كان ليصدق أن الطريق إلى أوروبا محفوفة بكل تلك المخاطر والأهوال. فمنذ ركوبه البحر ونجاته من الغرق قرب الشواطئ الإيطالية، ثم وصوله متقرح القديمين بعد عبوره الحدود الفرنسية سيرًا على الأقدام عبر طرق القطارات السريعة خشية الوقوع في أيدي بوليس الحدود، إلى لحظة وقوفه الآن تحت هذا الجسر الطائر للميترو رقم (2)، والتي يتحسر فيها بشدة على عدم إيجاده قوةً جسدية ونفسية تدفعانه للبدء في تعلم اللغة الفرنسية.
تنفس الصعداء وزفر مشاعر الغضب عندما جاءه صوتها رقيقًا عبر الهاتف:
– هاشم؟ انت سامعني؟
– أيوة سامعك.
– طيب قول لي بحبك بالفرنسي!
انتفض عند سماع كلمة الحب، وبحث عنها في داخله فلم يجدها، فلا الزمان ولا المكان يسمحان له بالهيام وهو يقف في صفٍ طويلٍ منتظرًا مجيء دوره لتناول طبق الوجبة الساخنة التي تُقدهما جمعية ” Resto du Cœur” الخيرية للمتشردين في الشوارع.

تملكه شعورٌ بالمرارة نتيجة عجزه عن البوح لخطيبته بأنه بلا مأوى ويتسول طعامه ويرجف من البرد وليس لديه نية في الكلام عن الحب. ثم شعر بالرأفة لحالها عند استشعاره أنها تفتقده وتحتاج لسماع كلمة حنونة تطمئنها وتعينها على تلك المسافة بينهما، فتمنى لو أنها كانت بجانبه ليعانقها بقوة، ثم يلومها على ما تسببت له فيه بتلك الغربة. لكن بسرعة، عاد يشعر بالغضب، عند تذكره رفضها اقتراحه بأن يقيما عرسًا بسيطًا يجمعهما في بيتٍ سعيدٍ، وتمسكها برأيها أن يكون مهرها أكثر من مهر ابنة عمها وحفل زواجها أفخم من زواج ابنة خالتها.

وعاد يتمزق بين شوقه وغضبه، والمحافظة على صورته في عيني خطيبته، فرجع يتلفت حوله بحثا عن كلماتٍ فرنسية تخرجه من هذا المأزق، لكيلا يعترف لها أنه لم يستطع الالتزام بالذهاب لدروس اللغة وهو يقيم في الشارع. وتمنى لو كان يجيد فقط إلقاء الشعر بالفرنسية حتى يتغزل فيها بإسماعها كلمات قصيدة “إلزا” للشاعر الفرنسي ” لوي أراغون-Louis Aragon”:
“عيناكِ من شدة عمقهما،
رأيت فيهما وأنا أنحني لأشرب،
كل الشموس تنعكس،،،
كل اليائسين يلقون فيها بأنفسهم حتى الموت.
عيناك من شدة عمقهما،،،،،أني أضعت فيهما ذاكرتي”.

وأوشك أن يعلن استسلامه ليعترف لها بكل شيء، فوقع بصره على لافتة محطة الميترو أمامه، فواتته فكرة نيرة، قرر تنفيذها فورًا، فألقى نظرة على الصف الطويل امامه، ولما أطمأن إلى أن دوره ما يزال بعيدا، تنحنح وحك رأسه ثم قال بصوتٍ هامسٍ:
-لاشاپيل.
فجاءه صوتها باردًا مستفهمًا:
– يعني شنو ” لاشاپيل”؟
بتوجسٍ، بلع ريقه وخامره شكٌ أن خطيبته قد اكتشفت كذبته، وأنها تعرف معنى الجملة ولكنها أرادت أن تسمعها منه، فوخزه ضميره تأنيبًا، فتساءل كيف له تصحيح ذنبه ليعترف لها أن “لاشاپيلLa Chapelle-” هو أسم محطة الميترو التي يقف أمامها الآن، وأنها تعني “الكاتدرائية” باللغة الفرنسية، وأنها كنيسةٌ عريقةٌ، صادف الوعد بأنشائها، اندلاع معركة “المارن الأولى” في عام 1914، عندما تعهد أَبِيه مارغاند”، أسقف باريس، الذي أصدر تعهدًا رسميًا أثناء مراسم تتويجه، ببناء كنيسة تكون مخصصة للقديسة الشابة “جان دارك”، رمز مقاومة الاحتلال الإنجليزي أثناء حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا، في حال لم تتأثر باريس بالجيوش الألمانية.

تحمس لفكرة اخبار خطيبته بقصة الكاتدرائية، عندما راوده أملٌ في أن تستقبل كلامه بفخرٍ ورضى عندما تسمع منه أن تلك الكاتدرائية تذكره بها، لأنه عندما دخلها أول مرة ليؤدي صلواته الخمس فيها، بعد أن تعثر عليه فعل ذلك في الشارع بسبب قانون علمانية فرنسا، استشف لأول مرة الشبه بين “جان دارك” القديسة الشابة عذراء أورليان، رمز مقاومة الاحتلال الإنجليزي أثناء حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا، وبين ” مهيرة بنت عبود”، المناضلة السودانية رمز مقاومة الغزو التركي على السودان بقيادة إسماعيل بن محمد علي باشا، بقيادتها نضال قبائل الشايقية في معركة “كورتي”، فكان ذلك مدعاة له لأن يربطها بخطيبته المدللة : مهيرة.

خرج من سهومه منتفضًا عندما كررت خطيبته سؤالها، فمحى عنه خوفه على صورته، كل أملٍ ورجاء، لحالته. فما كان منه إلا أن تلعثم كاذبًا:
– معناها بحبك بالفرنسي.
– بالجد؟ عليك الله يا هاشم بقيت تعرف تقول بحبك بالفرنسي؟
فشعر بالارتباك، وخشي أن تسأله لمن قال هذه الجملة في بلاد الغربة، لكنها فاجأته بطلبٍ ثانٍ:
– طيب قول لي بحبك شديد.
فأدرك أن ورطته لن تنتهي ما دام أنها قررت التمادي في الكلام عن شدة الحب وألم الجوا، فأخذ نفسا عميقا وقال بيأسٍ:
– “پوغت دو لاشاپِل” يامهيرة.
ثم أغلق الخط، لتعود إلى ذاكرته أيامُ بؤسٍ أخرى كان يقضي فيها الليالي واقفًا بجوار محطة “Porte de la Chapelle” في انتظار ذوي القلوب الرحيمة، ليأتوا عبر هذا المنفذ الشمالي لمدينة باريس ويوزعوا بطاطين وأغطية صوفية للمتشردين، تعينيهم على تحمل شهور البرد القاسية.

أدخل هاتفه في جيبه بعد أن تأكد من إغلاقه، ومسح دموعه التي غالبته بطرف قميصه البالي، عندما لاحظ شابًا اثيوبيا هزيلًا يقف على بعد ثلاثة اشخاص يطالعه بنظرات شفقةٍ.

لحظاتٍ عصيبة سمرته مكانه، صارع فيها شعور العار مرارة ألم العجز عن تلبية حاجة خطيبته لحنان والحب والاهتمام في وقت يتسول فيه طعامه، ويفتقر لسقفٍ يأويه من البرد وفراشٍ يريح ظهره المتخشب من النوم على الأرض. وبعد أن أشاح بوجه عن نظرات الشاب الإثيوبي، تقدم في الصف الطويل بحزنٍ وانكسارٍ، طاردًا صورة خطيبته من خياله؛ عله يهنأ بتناول وجبة عشاءه الساخنة على الواقف .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى