
والقصة للروائي والقاص الاريتري هاشم محمود حسن من مجموعته القصصية “الانتحار على أنغام الموسيقى” الصادرة عن دار النخبة للطباعة والنشر والابحاث القاهر مصر .. وقصة زواج بقرار عائلي هي قصة رقم (4) .. في المجموعة، تقع في ثمانية الصفحات من القطع المتوسط (A5)..
القراءة ..
في قصة “زواج بقرار قبلي”، يتجلّى السرد بوصفه مرآةً تعكس وجوهًا متعدّدة لإنسانٍ يتشبّث بأغصان تقاليده وهو واقفٌ على حافة الفقد. لقد استطاع الكاتب أن يحيك من خيوط الحزن والمصالحة نسيجًا سرديًا مكثفًا، يقطر رمزية وينبض بدفء إنساني نادر، حيث تتقاطع الجغرافيا بالهوية، ويتجاور الدم بالعفو، وتمتزج طقوس الموت ببوادر الولادة.
إنها ليست مجرد حكاية عن قتلٍ وديات، بل هي تأريخ ضمني لفلسفة عدالة بديلة، محكومة بإرث القبيلة وروح الجماعة. فالقتل لا يُواجه بالعقاب المجرد، بل يُقابل بردم الهوّة برحمة التقاليد، التي تتخذ من الزواج آلية ترميمية، تعيد للقبيلة تماسكها، وللأرواح المكلومة شيئًا من السكينة.
الكاتب لم يكتفِ بوصف الحدث، بل تنقّل بين طبقاته الشعورية، كمن يعزف على وترٍ مشدود بين الغفران والغصة. فالراوي – “الخفير” – لا ينطق ببراءته، بل يقدّم اعترافًا أخلاقيًا، يضخ حرارةً إنسانية في النص، ويكشف عن هشاشة الجاني حين تحاصره عيون الجماعة وتطالبه بالحقيقة لا بالمرافعة. وهنا، لا تُرفع الجلسات في قاعات محكمة باردة، بل تُعقد المجالس تحت شجرة، في فضاء مفتوح للضوء والهواء والرأي، وتُحسم القرارات بأصوات الحكماء وبقسَمٍ على كتابٍ لا يقبل الزيف.
أما لحظة التسمية – حين يُطلق على الطفل اسم القتيل “حامد” – فتمثّل ذروة الرمز في القصة، حيث تتجسّد فكرة “الولادة من رماد الغياب”، كأنما القبيلة تأبى أن تترك الذاكرة في مهبّ النسيان، فتبعثها في جسدٍ جديد، وتمنح الاسم حياة ثانية تُكمل ما انقطع.
وفي خلفية المشهد، ينبثق المسجد كركيزة روحية واجتماعية، لا تؤدي فيه العبادة وحدها دورها، بل تتقدّم الكلمة لتكون بلسَمًا ومعبرًا. فالشيخ عثمان، حين يرتجل موعظته باللهجة المحلية، لا ينزل منبرًا دينيًا فحسب، بل يصعد منصّة ثقافية، يُدرك من خلالها أنّ الإقناع لا يكون بالفصحى الجوفاء، بل بلغة القلوب المألوفة، لتصبح العبارة جسورًا بين النصوص والنفوس.
اللافت في السرد أيضًا هو وعيه الجغرافي والثقافي، إذ يرسم ملامح منطقة حدودية لا تعترف بخرائط الدول، بل بخيوط الدم واللهجة والخنجر المعلّق على الخاصرة، الذي لا يُستعرض كسلاح، بل يُرفع كهوية. وهنا، تتقدّم القبيلة ككيان بديل عن الدولة، يُنظّم الاجتماع، ويُعيد توزيع الألم.
اللغة في النص جاءت مرنة، متماهية مع نبض القصة، تنساب بسلاسة حينًا، وتتوتر حين يشتدّ الموقف، دون أن تفقد رصانتها أو تنجرف نحو الابتذال. كما نجح الكاتب في توظيف الرمزية دون أن يغرق في التجريد، فبقيت الرموز مشبعة بالدلالة، لكنها مشروحةٌ ضمنيًا عبر الفعل والسياق.
إن “زواج بقرار قبلي” ليست نصًا عن الماضي، بل تأملٌ في الحاضر من خلال مرآة العرف. هي قصيدة نثرية عن الإنسان حين يجد في الطقوس متنفسًا للحزن، وفي الزواج مخرجًا من الدم، وفي الاسم عودةً للمغيبين.
نصٌّ يُحاور الموروث لا ليُمجّده، بل ليُعيد اكتشاف وجهه الإنساني العميق.
في قصة “زواج بقرار قبلي”، نقرأ سردًا أدبيًا نابضًا بالحياة، يلتقط نبض المجتمعات التقليدية في لحظة حرجة من التوتر والتحوّل، حيث يتقاطع الحزن بالفرح، وتولد المصالحة من رحم الفقد. لقد نجح الكاتب في الإمساك بخيوط هذا المشهد المركّب، مقدمًا لنا لوحة سردية تنبض بالتفاصيل الإنسانية والاجتماعية والرمزية، دون أن تُثقل النص بالوعظ أو التنميط.
ما يميّز القصة هو قدرتها على الغوص في العمق الثقافي للمجتمع القبلي، دون إصدار أحكام، بل عبر تقديمه كما هو: منظومة متكاملة من الأعراف والتقاليد التي تحكم تفاصيل الحياة والموت، وتتحكم في معاني العدل والكرامة. فـ”زواج التعويض” ليس هنا مجرد تقليد صارم، بل يتحول إلى فعل رمزي كثيف، يُعيد التوازن إلى الأرواح والمجتمع، ويُجسّد فهمًا بديلًا للعدالة، يقوم على الترميم لا على الانتقام.
الراوي، “الخفير”، يقف في قلب هذا الإعصار الأخلاقي، واعيًا بخطئه، مستسلمًا لحكم الجماعة. لكن لحظة المصالحة التي يقودها الشيخ “أحمد صباح السنّان” تُضفي على المشهد هالة من التسامي، حيث العدالة تأخذ شكلها القبلي: دية، قسم على المصحف، مجلس تحت الشجرة، وزواج يُعيد رتق الشقوق بين العائلتين. الرمزية تبلغ ذروتها مع تسمية المولود باسم القتيل “حامد”، وكأن الموتى لا يغادرون تمامًا، بل يولدون من جديد باسم ووجه جديد.
أما السرد الموازي في المسجد، وخطبة الشيخ عثمان باللهجة المحلية، فيعكس تفاعل الدين مع الواقع الثقافي للناس، ويؤكد أن الرسائل الأخلاقية لا تصل إلا إذا لبست لسان المجتمع. هنا، يتحول المسجد إلى فضاء اجتماعي، مثلما تحوّل الزواج إلى أداة إصلاح، والقرابة إلى جسر لعبور الحزن.
كما نجح النص في استحضار الجغرافيا الإنسانية لمنطقة الحدود، حيث تتلاشى الانتماءات الرسمية أمام وحدة الدم والعرق واللهجة. وفي هذا، يُقدّم الكاتب نقدًا غير مباشر لسطحية الهويات السياسية، مقابل عمق الروابط الاجتماعية والوجدانية.
اللغة في القصة جاءت سلسة، حيوية، تراوح بين الفصحى والدارجة، وتعكس نبض الناس ووجدانهم، بينما الرمزية تنسج من كل تفصيلة معنى: الخنجر، الشجرة، الاسم، المصحف، وحتى الأحذية الجلدية، كلها إشارات إلى هوية متجذرة، وواقعٍ لا يُمكن فهمه إلا من الداخل.
“زواج بقرار قبلي” ليست مجرد قصة، بل شهادة سردية على قدرة المجتمعات على ترميم ذاتها بأدواتها، واستعادة توازنها دون أن تتنكّر لآلامها. هي دعوة للتأمل، لا في الماضي وحده، بل في الإنسان حين يُصارع المصير بسلاح العرف والحكمة والرمز.”