عثمان ميرغني يكتب : رؤية للمشهد الان
تسارعت التطورات في السودان، بعد زيارة رئيس الوزراء الاثيوبي أبي أحمد المفاجئة صباح 9 يوليو 2024 إلى بورتسودان، اخترقت نواميس البروتوكول في الصور التي أظهرت البرهان مع ضيفه متشابكين باليدين ثم يقود البرهان السيارة بنفسه وملامح الانسجام في الحركة والسكون طوال ساعات الزيارة .
لم تكن الزيارة في حاجة لبيان يصدر من أي من البلدين لتوضيح مراميها، تركت ذلك للخيال الشعبي والفضول الصحفي الذي أشبعها تحليلا غالبه غوص في بحور الخيال الذي لا يمت للحقيقة بشيء.
قبلها بيوم واحد، 8 يوليو 2024، كانت طائرة نائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي تحط في مطار بورتسودان، علامة على أن السعودية تود أن تهمس في أذن البرهان بما يفوق قدرة التواصل الدبلوماسي عبر السفارة، رسالة تستعجل العودة إلى مسار “منبر جدة” المطور في مظهر و جوهر جديد.
ولم يمض إلا بضعة أيام حتى كانت المفاجأة التي فجرتها وكالة أنباء الإمارات بخبر مكالمة هاتفية بين قيادتي البلدين، الشيخ محمد بن زايد والرئيس البرهان، جرت يوم الخميس 18 يوليو 2024، فيها عبارات المجاملة فوق البروتوكولية التي تنهي خصومة تمددت إلى ما وراء البحار في نيويورك.
بات واضحا أن الترتيبات الدولية والاقليمية لاستعجال اطفاء حريق السودان تسارع الخطى، فمنذ الشهور الأولى من 2024 بدأ ترسيم رؤية جديدة بعد وصول المبعوث الأمريكي الخاص توم بريليو إلى القاهرة وابتداره مهمته بلقاء مع وزير الخارجية المصري سامح شكري.
الترتيبات الجديدة وسعت المشاركة الدولة والاقليمية في رعاية المفاوضات لتدخل مصر والامارات مع السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، ولتضيف المسار السياسي للمسارين الانساني والعسكري، ويحتفظ “منبر جدة” باسمه لكن متخطيا المكان و اطار التفاوض.
وطرح المبعوث الأمريكي فكرة “اليوم التالي” وهي عبارة ذكية تعني النظر في مستقبل السودان بعد الحرب كمدخل لمخاطبة جذور الأزمة التي أدت للحرب.
وفق الترتيبات الجديدة استضافت مصر في السبت 6 يوليو 2024 مؤتمر القوى السياسية والمجتمعية السوداني تحت شعار “معا لوقف الحرب في السودان” والذي كان تقريبا شاملا للطيف السياسي والمجتمعي السودان بتمثيل شخصي لتجاوز عقدة التحالفات والانقسامات.
ثم انتقل المحفل السياسي إلى أديس أبابا وبينما قاطعته مجموعة “تقدم” شاركت أحزاب في غالبها تدعم الجيش و توافقت على بيان ختامي يطالب بتشكيل حكومة “تصريف أعمال”، وابتدار حوار سوداني لا يستثني إلا من أدانته محكمة سودانية، وهي عبارة تعني افساح عودة الإسلاميين إلى الملعب السياسي رسميا.
من مجمل المشهد يبدو أن خارطة الطريق المتوافق عليها بين القوى الدولية والاقليمية بدأت تؤتي أكلها، فرئيس الوزراء أبي أحمد في زيارة لبورتسودان جاء ممثلا للاتحاد الأفريقي، مستعيدا الدور الذي لعبه في التوصل لاتفاق بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري والذي تكلل بتوقيع الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس 2019.
منذ بداية حرب 15 أبريل 2023 أسند الاتحاد الأفريقي مهمة الوساطة لمنظمة الايقاد، وتطورت من تقديم مبادرة خاصة بها إلى مشاركة فعلية في الجولة الثالثة من مفاوضات منبر جدة في أكتوبر 2023، لكن التداعيات التي أدت لتجميد عضوية السودان في المنظمة الاقليمية أخرجتها من خط الوساطة.
حاول الاتحاد الأفريقي اسناد الدور للرئيس اليوغندي يوري موسيفيني لاستثمار ثقله الدولي والافريقي لكن يبدو أن موسيفيني لم يكن متحمسا بما يكفي، فانتقلت المهمة إلى أبي أحمد الذي يتميز على موسيفني بكونه في موقع الجوار المباشر.
أبي أحمد مهد لمهمته برسائل اثيرية بثها عبر خطابه أمام البرلمان الاثيوبي و ذكر أنه كان قادرا على انتهاز حرب السودان واستعادة أراضي الفشقة (في ساعات) على حد تعبيره، و رغم تخلف السودان عن سداد 90 مليون دولار قيمة الكهرباء التي تمد بها اثيوبيا السودان إلا أنه لم يوقف الامداد تقديرا لظرف السودان. هذه الرسالة كانت مؤثرة في السياق الشعبي و ربما الرسمي الذي ربما اعتبرها تلويحا بالبطاقة الصفراء.
تحت وابل هذا القصف الاعلامي العابر لسوء التفاهم بين البلدين منذ تصريحات سابقة لأبي أحمد ثم استقباله قائد الدعم السريع، وصل رئيس الوزراء الأثيوبي مطار بورتسودان ضيفا مرحبا به رسميا وشعبيا.
لم تكن الزيارة لبحث أية ملفات ثنائية كما أشيع، ولا نتيجة أية مخاوف من تداعيات داخلية في اثيوبيا، بل لفتح المسار بقوة نحو الترتيبات الجديدة في ملف المفاوضات السودانية.
وجاءت المكالمة بين البرهان وزايد لتستكمل الحلقة الأخيرة التي ستقود إلى صالة المغادرة، مغادرة الحرب السودانية عبر بوابة “منبر جدة