مقالات

عثمان ميرغني يكتب : تفكيك مفهوم الدين

اعتبار “الدين” كيانًا قائمًا بذاته أدى إلى انحراف في الفكر، وأنتج بدوره التطرف، بانطلاق من تصور أن “الدين” كلمة واحدة بمعنى واحد يُعبد لذاته.
وردت كلمة “الدين” ومشتقاتها في القرآن الكريم في مواضع عديدة وبمعانٍ متنوعة:
الدين بمعنى الجزاء والحساب: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (الفاتحة: 4).
الدين بمعنى الإسلام: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 132).
الدين بمعنى القانون: ﴿كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ (يوسف: 76).
الدين بمعنى مجموع الأديان: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (الفتح: 28).
استخدام كلمة “الدين” بمفردها لا يعني الإسلام إلا إذا دل السياق على ذلك. فقد وصف الله سبحانه وتعالى كفر الكافرين بأنه “دين”، كما في قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6)، أي: دينهم الكفر.
في كثير من الآيات، جاء “الدين” مضافًا يحتاج إلى مضاف إليه لتوضيح معناه. ففي أربع آيات، ورد تعبير “دين الحق” لتحديد الدين المقصود:
﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾ (التوبة: 29).
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة: 33؛ الفتح: 28؛ الصف: 9).
عبارة “ليظهره على الدين كله” تشير إلى أن “الدين” قد يشمل عموم الأديان.
عندما يهتف شاب: “نحن للدين فداء”، فإنه يجسد “الدين” كتلة صماء مجردة من المعاني التي تتكامل لتشكل مفهومه. هنا يتحول الدين إلى “بطاقة هوية” أو انتماء أيديولوجي، بدلاً من كونه سلوكًا إنسانيًا معياريًا يتكون من عناصر لا يكتمل المعنى بدونها.
عبارات مثل “يموت في سبيل الدين”، وإن كان المقصود بها الإسلام، تفترض أن “الدين” كيان مقدس يستوجب التضحية. لكن الدين -الإسلام- هو حزمة من المعاني والمعايير المرتبطة بالحياة، لا بالموت. إنه قيم وعمل يتحقق في الدنيا، فإذا طويت صفحة الحياة، تحول إلى “كتاب مغلق” لا يقبل إعادة الكتابة.
الدين “قيمة مرجعية”، لا يتحقق إلا بمفردات الحياة: القيم، السلوك، والعلاقة مع الآخر. بدون هذه العناصر، يصبح الدين مجرد علامة تجارية. الصفر في الأعداد هو المرجع؛ فالرقم 7، على سبيل المثال، يعني سبع درجات بعد الصفر. كذلك الدين، هو “الصفر” الذي تُقاس منه القيم والسلوكيات، شبيه بسطح البحر كمرجع لقياس الارتفاعات. فمدينة تقع على ارتفاع ألف متر فوق سطح البحر، وسطح البحر هنا خط الصفر المرجعي الذي لا يُسأل عن مكانه لأنه الأساس.
تفكيك مفهوم “الدين” يعني الأخذ بقيمه المعيارية للدلالة عليه: الاستقامة، النزاهة، الصدق، الإحسان، الرحمة، العدل، وغيرها. مجموع هذه القيم هو المقياس الحقيقي لـ”الدين”.
في العبارة الشائعة “نصر أو شهادة”، تتجلى دلالة على فهم خاطئ لـ”الدين”. النصر هو نتيجة جهد وعمل يؤدي إلى هزيمة العدو. أما طلب “الشهادة” كبديل للنصر، فكأنه طلب للهزيمة. الجندي في المعركة مهمته إنهاء تهديد العدو، لا إنهاء حياته هو. الشهادة تعني النهاية وقفل صفحة العمل، بينما مهمة الجندي هي النصر فقط. الشهادة ليست خيارًا يُطلب بديلاً للنصر، بل قد تحدث في سياق السعي للنصر، لا كغاية بحد ذاتها.
خطورة ترديد “النصر أو الشهادة” تكمن في أنها تزرع شعورًا بأن الوصول إلى النهاية وإغلاق سجل الأعمال هدف في ذاته. كثير من الفكر المتطرف نشأ في ظل هذه الفكرة التي تعتز بالنهاية بدلاً من العمل. الشهادة ليست غاية، بل وسيلة قد تحدث في سياق الحياة والجهاد.
الطالب الذي يجلس للامتحان يُحاسب بما يكتبه في ورقة الإجابة خلال الوقت المحدد. هدفه النجاح، الذي يتحقق بأفضل أداء ممكن في تلك الورقة. فإذا تمنى الخروج من القاعة دون الاهتمام بما يكتبه، قل اهتمامه بالإجابة، لأنه يبحث عن النهاية لا عن النجاح.
كذلك، البحث عن “الشهادة” كغاية يشبه السعي للخروج من حيز العمل والاجتهاد، بدلاً من السعي للنجاح والأمل في تحقيق المزيد. تفكيك معنى الدين يرتقي بمعايير الوعي والسلوك، ويعيد الدين إلى مكانته كمرجعية حياة وقيم، لا كشعار أو نهاية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى