
العلاقة التي تربط بين سلطان العاشقين بن عربي وسلطان بيت المال شيخ الأمين، علاقة لا تُقاس بالمقاييس التقليدية…
الأول قال: “أدين بدين الحب أينما توجهت ركائبه”،
والحب ديني وايماني ..
والثاني قال: “الماعندو محبة، ما عندو الحبة”،
فجعل من الحبّ مفتاحاً للرزق، وجسراً بين الأرواح.
المحبّة عندهما لم تكن مجرّد شعور، بل طاقة كونية تعبر الزمان والمكان،
تختصر المسافة بين الأندلس وأم درمان،
بين صوفية المشرق وجذور الطين النيلي…
كلاهما رأى في الحبّ جوهر الوجود، وسلطاناً أعلى من كل سلطان.
فابن عربي جعل من العشق سُلَّماً إلى الحضرة الإلهية،
وشيخ الأمين جعل من “المحبة” بركةً تنزل فقط على من يحمل في قلبه محبة.
تلاقت رؤاهما في منتصف الطريق، حيث لا الزمان هو الزمان ولا المكان هو المكان.
وقد قال سيد الخلق أجمعين:
“أفضلُ الناسِ أنفعهم للناس”
ومنفعة الناس… محبة في الله.
عاشقنا صمد وركّز، ونجح في الامتحان،
وخاض حرب النبلاء، لكنها لم تكن حربًا بالسيف،
بل حربًا على الجوع، والمرض، والحاجة.
خاضها بسلاح المحبة والتواضع،
وفتح جبهاتٍ في إطعام الطعام، وإيواء الأيتام، ومواصلة الأرحام.
خاض حربًا لم تُكتب فصولها بعد،
ولم تُفتح دفاترها لتدوين المآثر والمكارم والكرامات.
زرع الطمأنينة في قلوب المتعبين،
وأعاد الحياة إلى عيون الخائفين، بفضل الله، وبورده على تبع المحبين.
رجل وقف شامخًا في خط النار: في الدفاعات المتقدمة للمعارك،
اتهموه بموالاة الميليشيا،
ثم اتهموه بموالاة الجيش،
بينما كان هو جالسًا مطمئنًا، يداوي الجراح، ويقول: “أنا منحاز للمواطن.”
فكان إذا مرّ، عرفه الجائعون من أثر الرائحة.
في حضرته تتجلّى البركة،
ويتحوّل الجكسي إلى وسيلةٍ للفناء في المعنى،
والبيبسي إلى ديتول يداوي الجراح بكفّه،
ليس كفَّ البسطاء، بل مقام من مقامات العارفين،
حيث لا يُشترطُ عمامةٌ ولا مسبحة…
بل نيةٌ صادقة، بلاحدود او حواجز
في زمن الحرب،
عندما انهارت البيوت، وجاعت المدن،
ولم يبقَ للناس ظلٌّ يأويهم،
كانت تكية بيت المال كأنها واحة في صحراء الخراب.
هناك، لا يسأل الشيخ أحدًا عن انتمائه،
ولا يطلب من الجائع إلا أن يجلس… ويأكل.
في زمن ضاعت فيه الرحمة،
ظلّ شيخ الأمين عمر الأمين يقول بالفعل لا بالقول:
“هنا… لا يُحاسب الناس على جوعهم، بل يُكرمون عليه.”
ذلك أن أهل الله لا يُعرَفون بالصفات، بل بالأثر…
والأثر هنا، ليس فقط في الخبز الذي يُوَزَّع، أو الدواء الذي يُقدَّم،
بل في النور الذي يُغرس في القلوب… دون ضجيج.
شيخ الأمين… ليس فقط رجلاً من أم درمان،
بل من نسل أولئك الذين بايعوا الله على المحبة،
وعرفوا أن الرزق لا يُختزن في الخزائن، بل يُطلق في الأرواح،
وأن كرامة الإنسان لا تحفظها الدول، بل تُصان في يد مَن يعرف الجوع ويُجيره.
هو ليس قديسًا على الطريقة الأوروبية،
ولا وليًّا مُعَلقًا في هوامش الكتب،
هو تجربة حية… تُؤكّد أن الدين، حين يتجسد في الأفعال،
يُصبح أكثر نفاذًا من أي خطبة، وأكثر صدقًا من ألف بيان.
ولأن الله لا يختبر عباده إلا بما يحبون،
ابتُلي شيخنا بالمحبين،
وبالذين يأتون إليه وفي عيونهم رجاء،
وفي بطونهم فراغ،
وفي أكتافهم تعب المدن المنهارة.
فاحتضنهم كأنهم أولاده،
وسقى فيهم جذوة الأمل،
وعاد ببيت المال إلى معناه الحقيقي:
لا خزينة سلطة، بل خزانة رحمة.
ومَن عرف شيخ الأمين،
لا يحتاج أن يسأل عن مذهبه،
ولا عن شيخه،
لأن المذهب عنده هو المحبة،
والشيخ هو الجوع الذي أطعمَه،
والفقير الذي كساه،
واليتيم الذي نام آمناً في حضرة الدعاء.
أما الذين سألوه:
هل أنت مع هذا الطرف أم ذاك؟
كان يبتسم ويقول:
“أنا مع من ليس له طرف… مع من يقف عاريًا في منتصف الحرب ويقول: يا الله.”
فما كانت ثيابه علامة،
ولا عمامته حجابًا،
بل كان وجهه مرآة،
تنعكس فيها أنوار العاشقين…
من ابن عربي إلى شيخ أمين،
من الأندلس إلى أم درمان،
ومن بيت المحبة إلى مقام الإنسان .