طلاسم غبشاء _ بقلم ياسين ازاز
حين شعر بسرعة مُضي الزمن، حاول تداركه … فكانت المفاجأة.
بعد دقائق عدة ، تسمر واقفا على قارعة طريق الخذلان ، هو لا يدري أيخطو صوب الهلاك أم يتلكأ نحو الفجيعة المعتمة ، يتأنى في خطواته ، وعلى غير عادته ، ينكفئ إلى الوراء خطوتين قبل أن يهرول صوب سيارته السوداء التي تقف على يمين الطريق وشارة الإخطار ترفرف وكأنها حيوان يلفظ أنفاسه الأخيرة ، انتبهَ لأثار الإطار المرسومة في الطريق وقد انحرفت سيارته عن مسارها ، كاد رأسه ينفجر من فرط القلق ، يطرقع أصابعه بين الفينة والأخرى حتى يتناسى ما قد حدث للتو.
لبرهةٍ بات يدقق على ملامح وجهه في مرآة السيارة الداخلية ، فلم يتبينْ له إلا سواد وجهه ونصاعة أسنانه ، مرر يده على وجهه الضامر، فشعر بأن كومة من الدم تشق طريقها لتختفي في لحيته الكثيفة ، عاود الكرة من جديد ، فأيقن أن ما حسبه دما كان عرقا ، أحس بالراحة نسبيًا ، لكنه سرعان ما عدل عن ذلك ، حين تنفس بصعوبة بالغة وقد شعر بثقل في صدره ، ما إن رأى بجانبه فتاة ، أحس وكأنه يراها لأول مرة ، مذ أن انتبهَ لوجودها ، تهاطلتْ وابل من الأسئلة تجتاح رأسه ، وتزيد من توتره وقلقه. يتساءل: كيف جاءتْ؟ ما الذي تفعله في سيارته؟ وكيف ولجتْ؟ بتردد يحاول ترقب ملامحها ، يسرق نظرة ثم يصرف بصره عنها ، كانت الإضاءة باهتة ، فلم يستطع أن يتأكد من ملامحها إلا بصعوبة ، شعر ذهبي منسدلٌ على كتفيْن عاريتين تماما ، تغطيهما أوشام مرعبة متداخلة على بعضها ، أغمض عينيه الواسعتين ، وكأنه يريد تجاهل ما يراه ، يحاول فتحهما بارتباك ، غير أنه يخشى أن يرى صورة الفتاة في المرآة ، فتزيده ارتباكاً .
احتضنته بحفاوة ، فرمتْ بأسئلته وحيرته إلى قعر سحيق ، حاول التخلص من مخاوفه ، وهو لا يزال ساكنا في حضنها ، يحاول تناسي ما فعله منذ قليل ، ثم بصوت يقارب الهمس، تطقطق شفتاه:
“أ .. أأ…. أنا … خ .. خائف يا حبيبتي.”
لم تلتقط كلماته التي يلفظها بتقاطع إلا بعد بذل تركيز لا يقاس ، فتمتمتْ هي الأخرى ، وقد ارتسمتْ في وجهها ابتسامة منتصرٍ، دون أن تنسى محاولة تأثرها بالفجيعة:
“كان خطؤهم ، يقودون بسرعة مبالغ فيها.”
تحاول تهدئته حتى لا يصاب بهلع قد يفقده عقله ، كيف سيقوى على تحمل هذه الفاجعة التي ألمتْ به حين غفلة؟ ربما كان قاصدًا ، فكل صدفة في الحياة يسبقها تخطيط مدروس لا يترك فرصة للحظ لقول كلمته ، كيف يعقل أن تتوارد تفاصيل أحداث ، حدثاً تلو الآخر، حدثان في آنينِ مختلفين ، يحملان التفاصيل ذاتها؟ كيف نتحلى بالصبر، في اللحظة التي يسيطر الجزع فيها على كياننا؟ ما أسوأ أن نستخدم غيرنا كأدوات لتحقيق غاياتنا، ما أسوأ أن نمتلك أشياءنا الثمينة بأرخص وسيلة وقد أقسمنا على أن نبقيها ثمينةً ، رغم صعوبة الوصول إليها.
اتكأت عليه … أحس بحاجته إلى عناقها ، ما إن فرَد يديْه يفسح المجال لها، لترتمي في حضنه، أشاحتْ بوجهها عنه ، استغرب من ردة فعلها ، سرحتْ بعيدا، تكتم ما كان يمكن أن تبديه له، لكنها تخشى من تعظيم فجيعته وأن تكتفي بمصيبة واحدة فقط ، أحستْ بأن الوقت يمرُ بتأنٍ مبالغ ، قبل أن تتيقن من توقفه ، فبدأتْ تستعيد ما جرى في أيامها السابقة…
***
“في مسار الحياة، وعلى جانبيْ الطريق الذي أشقه بصعوبة، كثيرةٌ هي المحطات التي تأثرت بها ، أتوقف في بعضها، وأنكفئ إلى الوراء، كنبلٍ يوّد أن يقطع أطول مسافة ممكنة ، لكني أظل عاجزةً على الوصول ، أعرف أن الوصول إلى هناك -حيث أجد أحلامي- ليس بالأمر سهل المنال، لكن تسلحتُ بالأمل والشغف، وبما يمكن أن يتسلح به أي شخص يود معانقة أحلامه.
لم تكن رغبتي سوى أن أكون قربه ، أن أراه ليل صباح ، وأن أضحي في كنفه أكثر من أن يراني مجرد شخص يزيد بي تعداد أصدقائه. كنت فقط أريد تقييده ، أن يصبح لي كله ، أما وقد فشلت في ذلك ، فعلى الأقل لا يجب أن أفشل في معرفة السبب.
كنت أخشى أن أكون شيئا عابرا في حياته، وقد أصبحت ، اعتراني القلق ، وأنا أراه يحدث إحداهن بشغف ، وأحصي بقلبٍ يتقطع كل فجرالمرات التي يستأنس بالحديث معها، وهي التي لا تمنحه شيئا سوى قبلة على شاشة الجوال. مرة .. وأخرى .. وعشرة … وتمر الأيام والشهور دون أن يأنف منها ، أتراه يحاول التخلص مني بعد أن أخذ كل ما يريد؟ أيمكن أن يرميني طُعما لذئاب الشهوات، وأنا التي لا أقدر على البقاء دونه حية؟ ماذا لو كان حلمي الذي رأيته والذي لم أحدثه عنه حقيقة؟ أن يتزوج تلك النحيلة، ذات الشعر الأشعث وملامح عجوز على حافة الموت ، أيمكن أن يبدّلني بها ، وأنا العيطبول الممشوقة الرعبوبة التي وهبته كل ما كان يشتهي ، ما الذي يمكن أن يكون لديها ولم يتوفر عندي؟
كان شيئا وحيدا يقربها منه أكثر مني “الدم” لم استدرك حتى تلك اللحظة أن رابط الدم متين لهذا الحد، فهنا – في الغرب – بالكاد نزور والدينا ما إن نغادر منزلهم في سن الثامنة عشر ، حين بدأ يحكي لي عنها وعن أسرته، لم أخفي مدى استغرابي. كم هي بسيطة تلك الأشياء التي يُسرون بها، لكنها صعبة المنال ، كان يتوغل في السرد ، وكنت أفرط في الدهشة، حتى عرفتُ كل الطقوس التي ما تزال على قدسيتها البدائية عندهم.
مع كثرة الحديث عنها، بتُّ أكرهها، وكأنها ندٌ لي، وتفاقم كرهي لها ما إن أخبرني عزمه بالزواج منها ، كيف يفضلها علي؟ ألأني أجنبية؟ وهو أيضا أجنبي بالنسبة لي ، أفطس الأنف أجعد الشعر ذو وجهٍ عريض وقوام قزم ، لكن ، أيعاب المرء بمظهره الخارجي فقط؟ الجمال ، بصفة مطلقة ، من صنع مخيلة الحمقى ، يتباهون به حين يدركون مدى حماقتهم ، أما الجمال الأنثوي ، فهو سلاح ابتكره الرجال ليحاربوا به بعضهم ، حينها نحن الإناث نغدو السلاح والضحية.”
تنفست بإمتعاض ، وقد شعرتُ بسرعة الزمن الخاطفة ، حاولت تداركه قبل أن يعلن فتوره فيتوقف ..
***
الليل موحش، تسدل السماء غيومها لتومض بين الفينة والأخرى نجومها الغبراء بخمول ، وتداعب شذرات الضوء جفونه التي أرهقها التدقيق في ملامح الأنثى التي لا تزال تشاركه المقعد الأمامي من السيارة ، وترتمي في حضنه متى كان لها السبيل إلى ذلك ، يتثاءب ، فتمد يدها نحوه بقدر ما يستطيع المرء الذي تسكنه الحيرة أن يفعل ، فتستقر راحة كفها اليمنى على شفتيه ، معلنة تغطية أكبر جزء منهما.
يظل خارج هذه الأجواء ، يبحثُ عن خلاص من ورطته ، يسترجع ما جرى مرة تلوى الأخرى … ولكن دون جدوى. لا يعرف كيف حدث ذلك ؟ كيف فقد تركيزه فجأة ؟ كيف خرجتْ السيارة عن مسارها دون أن يشعر بذلك؟
القلق يأسره ، فحاولتْ إنقاذه ، حين شعرتْ وكأنه يستعد للهمس بشيء ، تمرر يدها على شفتيه ، يشعر بنعومتها ، فتتسارع نبضات قلبه ، يلتفتُ نحوها ، لا يرى شيئا سوى سواد حالك.
هنا شعر بتثاقل الوقت ، قبل أن يتوقف عن المضي قدما، ويرجع به إلى الوراء ، إلى حيث التقى بها لأول مرة ….
***
عادةً، في أيام الصيف، يتوجه إلى الشاطئ. لم أطق أحدا ممن أراهم أمامي بشكل مستمر. وحده ذاك الفتي الأسمر ذو الوجه العريض ، هو الوحيد الذي كان يعجبني. في الحقيقة، هو الوحيد الذي كان معجب بي ، لأني كنت أمنحه أكثر مما يستحق، ويمنحني أقل مما ينبغى. بالأحرى، أقل مما كنت أتمنى. ألفتُ حضوره المباغتْ، حين أريد مجيئه أراه أمامي. ما إن أحس بالتوق نحوه ، يظهر أمام ناظري ، حتى أحسستُ أنني كنت أحضره حين أريد، وأُغَيّبه حين أريد.
تجود الأيام عليّ بلقاءات متوالية -برغبة مني طبعا- وكان أكثر ما يروقني أنه سهل الوصول إليه ، فكان ، فقط ، يكفيني أن أغمض عينيْ لأراه أمامي ، ولكن ما إن أفتحهما ، كنت اضطر للهروب ، من نفسي أولا ، ومنه ثانيا … ومن الجميع.
مازلت أهرب، وما زال ذاك الشعور يتبعني، حتى لا أكاد أستطيع أن أخبئه في سرداب قلبي وأخفيه عن العالم. يمكنني أن ألجأ إلى الحلم ، في اللحظة التي أأنف فيها من واقعي. في الحلم يمكن أن أرى كل شيء بوضوح. صراحة، يمكنني أن أتخيل كل شيء كما أريد. يمكنني أن أصبح مليحة ، يرغبني الجميع ، يجرون ورائي ولا يلحقون بي. في الحلم فقط بإمكاني أن أتمتع بخصوصية مطلقة ، دون شروط وقيود ، لا يمكن أن يتطرق أحد لحياتي. يمكنني فعل ما أريد وكيفما أريد ، أجعل الحسناوات يبدين أقبح ما يكنّ ، أو على الأقل يمكنني أن أصبح أجمل منهن ، فالحلم يمنحنا أشياء في الغالب نتوق لمعانقتها ، نلهث وراءها في الحياة ولا تمنحها إياها. غالبا ما تأتي الأحلام بدافع الرغبة للهروب من الواقع أكثر مما هو سعي لنيْلِ هدف نوّد ملامسته ، فالأحلام ، كما هو معروف ، كائن غريب ، يحركه العقل ويحبسه القلب. يا للبؤس ، حتى أحلامنا أصبحت مثلنا ، يغطيها الشحوب فلا تظهر إلا بملامح غبشاء ، ما أسوأ أن نفشل في صياغة حياتنا ، وكأننا أحجار على رقعة الشطرنج ، يحركنا مجهول ليحقق بنا انتصارا دون إرادة مطلقة من ذواتنا التي تأبّه عليها صنع ذاتٍ حقيقة ، لم ولن أكف عن الأحلام ، عن الأخطاء ، لأنهما خلاص من موت قادم ببطء.
شعرتُ بسرعة الوقت ، حاولت الإمساك به … لكني لم أفلح هذه المرة. فمضى مسرعا لينقذني من ورطتي.
***
الأن بإمكانه أن يرتاح نسبيا ، وقد أيقن موت من خانته كان قدرا ، لكنه كان يعرف الحقيقة على عكس حبيبته التي تجالسه ، فقد رتب لكل شيء بدقة. عرف موعد رحلتهما ، ثم ترصدهما ما إن غادرا المدينة. عزم على قتلها إن ثبت خيانتها ، فهي ، وإن كانا لا يعرفان بعضهما ، زوجته وعرضه ، لم يكن يتوقع أن تخونه مع شخص أشقر، وخاصة أن الأشقر في علاقة مع الأنسة التي تجالسه ، كيف توصل إلى ذلك؟ ربما أخبرته ، ربما تريده أن يستمر معها ، أن ينسى الأنثى الجديدة التي دخلت حياته دون عزم سابق ، أو ربما أرادتْ أن تتسلى بشجارهما ، ففي لحظات الفراغ يرتكب المرء حماقات لم تكن في الحسبان.
يسير ببطء، ما إن يشعر أنهما سيغيبان عن ناظريه ، يسرع فيقترب منهما. يظل يفكر كيف سينفذ ما عزم عليه؟ تنعطف السيارة أمامه إلى اليمين ، يتبعها دون تردد. تصطدم السيارة التي أمامه ، فتغير مسارها ، قبل أن يصدمها من الخلف، فينتهي بها المطاف في القاع ، لتختفي في الماء رويدا رويدا وهو يتابع هدير المياه بتوتر … يغادر سيارته بحزن ، لا يعرف كيف حدث كل هذا، يتجنب تذكر ما حدث ، يتسمر على قارعة الطريق ، ويتابع بعينين واسعتين آثار إطار السيارة وهي تغير مسارها.
يشعر بثقل الوقت … يشعر بسرعته ، يشعر بالقلق … وأكثر من ذلك يشعر بالخيانة.
رآها تتابعه في جوالها، ومن حوله أيضا يتابعونه. حاول التلصص على جهازها، فأدرك أنه كان ضحية للعبتها الخبيثة ، وجهه العريض فقط يعرض على الشاشة. الكل يتابع ما جرى، وما يجري ، في بثٍ مباشر. الآن فقط قد يستفيق من سباته ، ويعلم أن سره انكشف. ما أصعب أن تنطلي علينا الحيلة ، وقد منحنا أحبة لنا الثقة كاملة ، ما أصعب أن نستهين بخصوصية حياتنا ، فتغدو مسلكا يقودنا نحو الهلاك. إنه يحبها أيضا، ويفعل كل شيء لأجلها ، أكان ذلك خطأ ؟!
غالبا ما نرتكب الأخطاء الجسيمة ونحن في طريقنا لتصويب ما ظنناه خطأ ، الصواب دائما ما يأتي دون كلفة ، دون جهد ، دون إنذار مسبق ، على عكس الخطأ ، دائما ما يأتي بعد بذل النفس كل ما أوتيت من طاقة ، فلا يبقى أمامها سوى ارتكاب الخطأ دون الشعور بتأنيب الضمير. كم يصعب على المرء أن يفني حياته كلها متبعاً مسلكًا واحدًا، صحيح يمكن أن نصل ، ولكن إلى وجهة لا نريدها. نحتاج أن نخطئ بشكل مستمر، لندرك أننا لا نزال على قيد الحياة. فالرتابة والعيش على صواب ما هو إلا مؤقت لنفسٍ شارفت على الموت ، والخطأ دلالة على أننا لا نزال على قيد ابتكار حياة جديدة تليق بذواتنا.
تهمسُ في أذنيه ، يشعر بحرارة أنفاسها في عنقه ، وبكل غنج تطقطق:
” لا تنسى أن تحلم”
“لا أنسى”
تقترب منه أكثر، تمد يدها نحوه ، تتشابك أناملها المخضبة بالدم ببعضها. تنظر في عينيه ، تبتسم فتنطق بهدوء:
“لا تكف عن ارتكاب الأخطاء”
“لن أكف”
الحلم، كما نعرف ، كائن غريب ، وجمال النساء سلاح فتاك ، اخترعه الرجال ، وقد يدمرك إن لم تحسن استخدامه ، ما أروع أن ينتقم المرء لنفسه ، أن يُخلّص العالم من بؤس المصير، ما أروع أن يخطئ المرء ليتدارك خطأ البداية والتوجه نحو الصواب ، بل ما أجمل أن نعيش ولا أحد يتطرق لخصوصيتنا وما نملك من خبايا بدواخلنا.
تشعر بثقل الوقت … تشعر بسرعته ، تعيش تناقضات بين عالمين مختلفين ، ويزعجها صوت المنبه ، فتصحو مضطربة ، قد تغادر غرفتها بعد لحظات ، لتخرج إلى الشاطئ ، لكنها لن تجد الفتى الأسمر ذو الوجه العريض ، الآن يجب أن تتقبل فجيعتها ، فالحياة ليست كالأحلام ، الحياة دائما تمنحك ما لا تريد ، في الحياة حتى الوقت يعلن استسلامه ، ويزحف بشكل سليم.