
حققت السلطات السودانية الشرعية في الفترة الأخيرة نجاحات كبيرة على كلا الصعيدين – الميداني والسياسي. حيث تمكن الجيش من تحرير المناطق الواسعة في وسط البلاد. وكانت الخطوة المهمة تشكيل حكومة مدنية ستواجه المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة والملحة. نسمع أن الناس بدأوا يعودون بأعداد كبيرة إلى بيوتهم. تتحدث الأمم المتحدة عن 2.5 مليون شخص، نصف مليون منهم كانوا لاجئين خارج الوطن. وقد رجع أكثر من 800 ألف من السكان إلى الخرطوم وحدها. نتوقع أن يطلق السودانيون حواراً وطنياً شاملاً بمشاركة جميع القوى السياسية الوطنية.
ومع ذلك، وللأسف الشديد، قد تأكدت توجساتنا السابقة. فإن أنصار استمرار الصراع المسلح لا يتركون محاولاتهم لتفتيت الوحدة التي تشكلت بين الجيش والشعب خلال سنوات الحرب، هادفين في نهاية المطاف إلى القضاء على الدولة السودانية بتقسيمها إلى كيانات متناحرة. هذه هي الطريقة التي نفسر بها التشكيل في نيالا وبدعم خارجي ما يسمى بـ”حكومة التأسيس” التابعة لقوات الدعم السريع ومرافقيهم. وفي الحقيقة، يدور الحديث حول إنشاء كيان أو دويلة في غرب السودان. وفي نفس الوقت، تتصاعد الضغوط من أجل “إعادة الديمقراطية” المزعومة على الحكومة الشرعية، باستخدام كافة الوسائل لعرقلة جهودها لمحاربة المتمردين. كل هذا يهدف إلى تعميق التفكك. ولا يخفي داعمي الصراع رغبتهم في إدخال إسفين بين الجيش وحلفائه من الحركات الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام. ولا يزعجهم أن التحالف الانتهازي بين جزء من عرب دارفور من قوات الدعم السريع والمقاتلين المتشددين من جبال النوبة قد بدأ يتصدع.
من الواضح أن يجذب عدم الاستقرار والفوضى الإرهابيين والمجرمين من كل نوع. فالأراضي التي يسيطر عليها محمد حمدان دقلو وعبد العزيز الحلو قد تصبح ملاذاً للمتطرفين من جميع أنحاء المنطقة. نحن نرى بالفعل في صفوف المتمردين آلاف المرتزقة من دول الساحل الصحراوي وحتى أمريكا اللاتينية، وهو ما يهدد لأكثر من عامين أمن الدول المجاورة للسودان.
وق يتساءل البعض ويقول من بالضبط يقف وراء الأزمة السودانية؟ من يمولها ويستفيد منها؟
رداً على هذا السؤال، أود أن ألفت إلى جوهر المعضلة، الذي لا يقتصر فقط على تدخل لاعبين إقليميين في الصراع. وفي السياق، أعتبر مهماً مقال رئيسة البعثة الدبلوماسية البريطانية السابقة في السودان، السفيرة روز ماري مارسدن، وهي حالياً تشتغل خبيرة في المنظمة “تشاتام هاوس”. هذه السيدة تكرر وبدون أي مواربة المطامع الاستعمارية الغربية الثابتة تجاه السودان: تسليم السلطة إلى ثلة عملائهم “نشطاء ديمقراطيين” برئاسة رئيس مجلس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، وإدراج السودان أو أجزائه– فسيادة ووحدة أراضي الدول الأفريقية لم تكن أبداً من أولويات لندن– في اللعبة الجيوسياسية الغربية. أي منع نفوذ روسيا وإيران والصين هنا. وفي نفس الوقت، لا يزعج المستعمرين الجدد عدم وجود قاعدة اجتماعية لأي من “النشطاء الديمقراطيين” لأنه وكما هو المتعارف عليه الآن في أوروبا، يمكن ببساطة إقصاء أو حظر أي منافسين. كلنا يذكر جيداً الاستراتيجية التي كان ينفذها في وقته رئيس بعثة الأمم المتحدة لمساعدة عملية السلام في السودان، السيد فولكر بيرتس، وكانت الاستراتيجية هذه هي السبب المباشر لانفجار الصراع الحالي. بينما لا يمكن فرض مثل هذا السيناريو على السلطات الشرعية في بورتسودان، إلا أنه يمكن الطعن في شرعيتها. وفي الوقت نفسه، في الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون الموالون للغرب وخدمهم السياسيين، يجري تشكيل دولة بديلة. ولم يبق سوى تجميد الصراع، وثم تصنيف الحكومة في نيالا بأنها ديمقراطية، وما يتبع ذلك – أمر واضح.
وهكذا يسعى الغرب إلى تشويه سمعة السلطات السودانية والطعن في شرعيتها. ويتم ذلك بطريقة ملتوية. يستخدم أسلوب ثنائي “الشرطي الطيب والشرطي السيئ” المعروف. من ناحية، يتحدثون عن إرهاب قوات الدعم السريع. ومن ناحية أخرى، يحافظون على اتصالات مع حكومة المتمردين في نيالا تحت ذريعة المساعدة الإنسانية. في نفس الوقت وكالأمر الواقع، يساوون بينها وبين بالسلطات الشرعية، ويقدمون “المسالمين” من ائتلاف الصمود لعبد الله حمدوك على أنه الخيار الوحيد لحل الأزمة. وفي الحقيقة يفرضون على السودانيين خياراً زائفاً –إما تقسيم البلاد واستمرار الصراع، أو وصول “الديمقراطيين الجيدين” إلى دفة السلطة وبالطبع لا يقول الغربيون أن انهيار الدولة سوف يحدث حتمياً حتى في هذه الحالة. وسيحصل الاستعماريون الجدد مرة أخرى على موارد رخيصة، ويجففون فرص التنمية الاجتماعية والاقتصادية لشعوب المنطقة، ويسمون كل هذا “انتصاراً للقيم الإنسانية العالمية”.
اما رأيي فيما يتعلق بالمبادرات الدولية الأخيرة لتسوية الأزمة السودانية؟
فأقول اننا ننطلق من أنه حتى اليوم خارطة الطريق العملية الوحيدة هي خطة التسوية السياسية التي سلمها رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، للأمين العام للأمم المتحدة، والتي دعمها علناً المبعوث الأممي رمطان لعمامرة. بالفعل تم تنفيذ المرحلة الأولى منها، أي تشكيل الحكومة المدنية كاملة الدسم برئاسة السيد كامل إدريس. مع عودة الأمور إلى طبيعتها، نتوقع إعادة إطلاق الحوار الوطني تليه الانتخابات. من الواضح أن ظهور الديمقراطية الشعبية السودانية الحقيقية لا يمكن أن يرُضي محرضي الحرب في السودان، كما هو الحال في أوكرانيا، يسعى الغربيون إلى إفشال أي مبادرات تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية للصراعات، بما في ذلك يحاولون أن يؤثروا على رأي الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش.
كذلك اندهشت من الضجة حول البيان المشترك الأخير لوزراء خارجية الرباعية المكونة من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية والإمارات العربية المتحدة والذي – كما يرى الكثير من الخبراء والمراقبين –يدعو إلى العودة بكل شيء إلى العام 2023 وتعطيل اتفاقية جوبا للسلام ثم التصرف بروح أفكار السيد فولكر بيرتس، أي إرجاع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى الثكنات، وتسليم السلطة، بطبيعة الحال بدون انتخابات، لعبد الله حمدوك. إذن، هل خارطة الطريق المتفق عليها مع قيادة الأمم المتحدة للبرهان يجب الآن إلغاؤها مع إلغاء جهود المبعوث رمطان لعمامرة المبذولة في هذا الاتجاه؟ وذلك من أجل عودة إلى الساحة لرئيس الوزراء السابق الذي فر من الوطن؟ وماذا عن الواقع على الأرض؟ المصالحة القسرية بين الجيش، الذي قد حرر معظم البلاد، وبين من يرعب السكان ويقتلهم وينهبهم ويهتك أعراضهم ويرتكب التطهير العرقي؟ نشك في أن الشعب السوداني مستعد لأن ينسى بين عشية وضحاها التضحيات والثمن الباهظ الذي دفعه ذوداً عن سيادته ووحدته واستقلاله.
واقول اخيرا حول تطور العلاقات الروسية السودانية في المرحلة الحالية… انه ورغم الصعوبات الموضوعية، فإن تفاعلنا السياسي وتنسيقنا في المحافل الدولية بتزايد مستمر. من المشجع أننا نلاحظ أن الطرفين يسمعان البعض دائماً، ويتفقان في معظم القضايا. نتوقع أن تعطي القمة الروسية العربية التي ستنعقد في أكتوبر المقبل في موسكو زخماً جديداً لشراكة بلدينا.
كما نعوّل على تنشيط العلاقات التجارية والاقتصادية. نعلم أن السودان لا يزال يشتري الحبوب والمنتجات الغذائية الروسية. وقد عقد في هذا الشهر اجتماع اللجنة الحكومية المشتركة الذي تأجل لسنوات بسبب الحرب، وتم خلاله تحديد الاتجاهات للتعاون. من المهم الآن الانتقال إلى التنفيذ العملي لكل من المشاريع المتفق عليها سابقاً والمشاريع الجديدة. قطاع الأعمال الروسي منفتح للمشاركة في إعادة الإعمار ما بعد الحرب في البلاد. لدينا ما نقدمه، ولدينا الخبرة ذات الصلة في إعادة التأهيل السريعة للبنية التحتية المدمرة في الأراضي الروسية.