مقالات

رحمة عبدالمنعم يكتب : منى الشاذلي.. العبقرية والثقافة والحضور

في زمنٍ ازدحمت فيه الشاشات بالألوان وقلّ فيه حضور الفكرة، برزت الإعلامية المصرية منى الشاذلي لتعيد للإعلام وجهه الأصيل: مزيجاً من المعرفة والوعي والاحترام، ليست مجرد مذيعة لامعة، بل مدرسة إعلامية قائمة على ركيزتين نادرتين في هذا العصر: الثقافة والتمكن،،،،.
منذ بداياتها في شبكة راديو وتلفزيون العرب (ART) التي كانت تبث من العاصمة الإيطالية روما، بدت منى الشاذلي مختلفة، لم تدخل المجال صدفة، بل عبر مسابقة للمذيعات اجتازتها بثقة وقدرة على الإقناع، فبدأت كمراسلة تلفزيونية تجري اللقاءات مع الفنانين والمغنين، غير أنها لم تكتفِ بالبريق الفني، بل اختارت طريق البرامج التي تحاور العقول لا الملامح، وقدمت أعمالاً تلفزيونية مبكرة مثل «القضية لم تُحسم بعد» و«لا أرى لا أسمع لا أتكلم» و«لا تذهب هذا المساء».
لكن التحول الكبير في مسيرتها جاء مع برنامج «العاشرة مساء» الذي غيّر وجه الإعلام المصري والعربي خلال فترة وجيزة فرض البرنامج نفسه على المشاهدين، ليصبح مثالاً حياً على أن ارتباط الجمهور بالبرنامج لا بالقناة،عبر هذا المنبر، فتحت منى الشاذلي نافذةً جديدة للجرأة المسؤولة، وقدمت نموذجاً حوارياً راقياً أعاد الثقة بين المشاهد والمذيع، وأثبت أن الحضور الحقيقي ليس في الصوت المرتفع، بل في الكلمة الوازنة.
تأثير «العاشرة مساء» تجاوز حدود الشاشة؛ فبرامح كبرى مثل «البيت بيتك» و«90 دقيقة»و«الحياة اليوم» استلهمت منه جرأة الطرح وحرية السؤال، كانت منى الشاذلي بذلك رائدة مرحلة جديدة جعلت من الحوار الإعلامي جزءاً من الحركة الفكرية في المجتمع.
استضافت في برنامجها شخصياتٍ صنعت الجدل وصنعتها الأحداث: من السياسيين أحمد عز وطلعت السادات إلى جميلة إسماعيل، مروراً بعلماء ومبدعين كـ أحمد زويل ومحمد البرادعي وعمر خيرت وعمار الشريعي. لكنها بلغت قمة المهنية حين جلست في البيت الأبيض عام 2008 لتُجري مقابلةً مع الرئيس الأمريكي جورج بوش، في لقاءٍ لا يتجاوز عشر دقائق لكنه حمل أسئلةً تلامس جوهر العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، وقضايا فلسطين وإيران، فكان درساً في كيفية تحويل الدقائق المعدودة إلى مادة تُقرأ بعمق السنين.
ولم تكن أقل جرأة حين حاورت محمد بديع، مرشد جماعة الإخوان المسلمين حين كانت جماعته محظورة داخل مصر، لتثبت أن الحوار الحقيقي لا يعرف مناطق محرمة، وأن المذيع الذي يخاف لا يُسهم في صناعة وعي.
وبعد ثورة يناير، تحوّل «العاشرة مساءً» إلى منبر وطني مفتوح، استضافت فيه أبرز شخصيات المرحلة من رؤساء الوزراء إلى القادة الإقليميين، مثل رجب طيب أردوغان ومحمد المنصف المرزوقي، ومع عام 2014، اختارت أن تفتح صفحة جديدة ببرنامجها «معكم منى الشاذلي» بعد تجربة ناجحة في «جملة مفيدة» على قناة MBC مصر، ومع كل محطة جديدة، حافظت على بصمتها الخاصة: الاحترام قبل الإثارة، والفكر قبل العنوان….
منى الشاذلي اليوم ليست مجرد إعلامية ناجحة؛ إنها ظاهرة فكرية تلفزيونية في زمنٍ يلهث فيه الكثيرون خلف التريند، تجمع بين الرصانة والتلقائية، وبين صرامة الحوار ودفء الحضور..ولقد أثبتت منى الشاذلي أن الأنوثة لا تُلغي العمق، وأن الإعلام ليس استعراضاً بل مسؤولية..ومن وسط هذا الصخب الذي يغمر الشاشات، يظل صوتها مختلفاً… لأنه صوتٌ يعرف متى يتكلم، ومتى يصمت ليُفكّر.

القاهرة 7 نوفمبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى