
شاهدتُ مساء أمس الجمعة مقطع فيديو متداولاً في وسائل التواصل الاجتماعي للصحفي مهند الشيخ، ولم يكن ما قاله حديثاً عابراً ولا شهادة انفعالية، بل رواية هادئة لوقائع تكشف طبيعة مرحلة سبقت تمرد قوات الدعم السريع، حين كانت التجاوزات تُرتكب تحت غطاء الدولة، وحين اختلطت السلطة بالقوة، وتراجعت الحدود بين ما هو قانوني وما هو مسلّح، حديث مهند لم يكن استدعاءً للماضي من باب الفضول، بل تذكيراً ضرورياً بأن ما نعيشه اليوم له جذور واضحة في الأمس.
تحدث مهند الشيخ صراحة عن تجاوزات نائب قائد الدعم السريع، عبدالرحيم دقلو، وكيف كانت تلك الممارسات تتم في وضح النهار، بلا خوف من مساءلة أو محاسبة،ومن بين تلك الوقائع، استعاد قصة الظلم الكبير الذي تعرّض له مدير شركة تاركو للطيران، سعد بابكر، بوصفها نموذجاً صارخاً لاستخدام السلطة في تصفية الحسابات، وجعل الاعتقال وسيلة مباشرة للابتزاز.
روى مهند أنهم كانوا في جلسة غداء بمنزل الفريق عباس عبدالعزيز، وكان من بين الحضور عبدالرحيم دقلو، الذي كان يشغل وقتها منصب نائب قائد الدعم السريع، يقول مهند إن دقلوجلس إلى جوارهم، وبدأ يتحدث بلا مواربة عن رغبته في امتلاك شركة طيران أو الاستيلاء عليها إن تعذّر ذلك، ثم قال ببرود لافت إنه أدخل مدير شركة تاركو للطيران، سعد بابكر، السجن، ولن يُفرج عنه ما لم يتنازل عن الشركة لصالح استثمارات الدعم السريع.
سعد بابكر، مدير شركة تاركو، لم يكن طرفاً في صراع سياسي، ولا لاعباً في معادلة عسكرية، كان يدير مؤسسة وطنية نجحت في قطاع استراتيجي، وهو ما جعله هدفاً في زمنٍ كان النجاح فيه يثير الشبهة، هكذا سُجن سعد بابكر ظلماً، وترافق ذلك مع حملات تشويه قادتها آلة الدعم السريع الإعلامية، جرى خلالها فبركة روايات كاذبة لتبرير السجن، وتحويل الضحية إلى متهم في نظر الرأي العام.
ثمانية أشهر قضاها سعد بابكر خلف القضبان، دفع خلالها ثمناً باهظاً من صحته؛وهي آثار لا تزول بمجرد الخروج من الزنزانة،وعندما برأته المحكمة العليا من جميع التهم الملفقة، جاء الحكم بمثابة إقرار رسمي بأن ما جرى لم يكن سوى ظلم صريح، استُخدمت فيه السلطة خارج إطار القانون.
غير أن القصة لم تتوقف عند هذا الحد، فعندما تمردت مليشيا الدعم السريع لاحقاً على الدولة، وخاضت حربها ضد الجيش، عادت شركة تاركو لتدفع الثمن مرة أخرى،هذه المرة لم يكن الاعتقال هو الأداة، بل التدمير المباشر، دُمّرت ست طائرات بوينغ تابعة للشركة، وسُوّي مبنى تموين الطائرات بالأرض، ونُهبت المخازن، واستُولي على الأصول المتحركة، بما في ذلك أسطول من عشرات السيارات، لتصل خسائر الشركة الإجمالية إلى أكثر من 100 مليون دولار.
ما تعرضت له تاركو خلال الحرب لم يكن مجرد خسارة مالية أو تجارية، بل كان استهدافاً لمؤسسة وطنية لعبت أدواراً حيوية في أصعب الظروف، ومع ذلك، لم تتوقف الشركة عن العمل؛ فقد عملت على استجلاب أحدث الآليات للمناولة الأرضية لاستقبال تبرعات الدول من أدوية وغذاء وغيرها في مطار بورتسودان عبر شركة تاركو للمناولة الأرضية، كما قامت عبر تاركو للشحن بتجهيز أكبر مخزن لتخزين الصادرات والواردات التي تحتاج لعناية خاصة، سواء في مبردات أو غيرها، لتضمن استمرارية الخدمات الحيوية رغم كل ما أصابها من دمار ونهب.
إن قصة سعد بابكر، كما أكدها حديث مهند الشيخ، تكشف خيطاً واضحاً يربط بين مرحلتين: مرحلة تجاوزات السلطة خارج القانون، ومرحلة التمرد المسلح. في الحالتين كان المنطق واحداً: القوة أولاً، وما عداها تفصيل. وكانت النتيجة واحدة أيضاً: ظلم الأفراد، وتدمير المؤسسات، وتقويض فكرة الدولة.
سعد بابكر صمد وثابر رغم كل الظلم والتدمير، وظل متمسكاً بخيار البناء، مؤمناً بأن خدمة الوطن لا تُقاس بحجم الألم، بل بالقدرة على الاستمرار رغم كل شيء.
هذه ليست قصة رجل أعمال فحسب، بل شهادة على مرحلة يجب أن تُفهم كما هي: مرحلة بدأ فيها الظلم باسم السلطة، وانتهت بالحرب على الدولة نفسها. ومن لا يقرأ البداية جيداً، لن يفهم لماذا انتهى الأمر إلى هذا الخراب.



