منصة عطاءات السودان tender.sd عطاءات السودان
مقالات

د. بدر الرشيدي – يكتب مذهب الجاحظ في الأدب

آراء الجاحظ في الأدب مشتتة في أثناء كتبه، فلا نجد له مباحث مطردة في هذا الباب يأخذ بعضها برقاب بعض، فكأنه يلهو بمجامع المعاني لهواء، وهذا اللهو من خصائص عبقريته.
وعلى هذا النحو أننا لا نطمح في الاستقصاء في آرائه الأدبية، وإنما نتوخى معرفة اليسير منها، لعلنا نتصور الجاحظ في صورة الأديب، أو الفيلسوف أو صورة الناقد.
قبل أن أتفرغ لبيان أفكاره الأدبية لا أرى لي مندوحة عن الإشارة إلى مذهبه في الأدب، فالجاحظ من أصحاب الأدب المجرد، إنا نعلم أنه عاش في عصر استفاضت فيه الحرية في كثير من الأمور، من جملة هذه الأمور تسمية الأشياء بأسمائها دون اللجوء إلى الكنايات، فإذا تصفحنا بعض الشعر في هذا العصر ظهرت لنا ألفاظ عادية تصور الطبيعة في حقائق صورها، دون شيء من التعفف، والجاحظ متصل بعصره الاتصال كله على نحو ما تبين لنا ذلك، لم ينسلخ من أثر من آثار هذا العصر، فإذا وجد أن الأدب المجرد مذهب من المذاهب المستفيضة، أخذ به ولم يتورع، فهو صورة عصره في كثير من الأمور، فمن قوله في هذا المعنى:( بعض الناس إذا انتهى إلى ذكر… ارتدع، وأظهر الغزز، واستعمل باب التورع، وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم والنبل والوقار إلّا بقدر هذا الشكل من التصنع، ولم يكشف قط صاحب رياء ونفاق إلّا عن لوم مستعمل، ونزالة متمكنة)( ). إلى آخر ما ذكره ثم أيّد مذهبه هذا بطائفة من كلام النبي  وكلام بعض الخلفاء الراشدين، والسلف الطيب.
ففي كلام الجاحظ ما يدل على أنّ هذا الشكل من الأدب لم يشع الشيوع كله، فقد كانت طائفة من الناس يرتدعون، ويظهرون التغزز، ويستعملون باب التورع، إلا أنّ الجاحظ كان يدعي أنّ هذه الأخلاق، إنما هي ضرب التصنع، فقد نجد في كلامه ما هو مجرد من الأدب نسبة إلى عصرنا، وقد يكون هذا الكلام مألوفاً في عصره، إلا أنه كيف كان الأمر فلا يستطيع في هذه الأيام أن نستعمل إضراب هذا الكلام، لأن عصرنا لم يتهيأ لهذا النوع من الأدب، أما كلام الجاحظالذي أشرت إليه فإنه يتجلى في بحثنا عن لغته.
وقد جرته هذه الحرية في الأدب إلى حرية مثلها في اللة، وهذا ما قاله في بعض كلامه عن الكلاب:(فأما الذي شهدت أنا من أبي إسحاق بن سيار النظام، فإنا خرجنا ليلة في بعض طرقات الأبُلة، وتقدمته شيئاًن وألحّ عليه كلب من شكل الشكيمة، أباء للهضيمة، وكره أن يجلس مخافة أن يشعر عليه بيوله، أو لعله أن يعضه فيهرت ثوبه، وألحّ عليه، فلم ينله بسوء فما جزنا حده، وتقدمنا منه، قال إبراهيم في كلام له كثير، يعدد خصاله المذمومة، فكان آخر كلامه قال: إن كنت سبع، فأذهب مع السباع، وعليك بالبراري والغياض، وإن كنت بهيمة، فأسكت عنا سكوت البهائم). فلما بلغ الجاحظ إلى قله البهائم، قال: ولا تنكر قولي وحكايتي عنه بقول ملحون، من قولي: إن كنت سبع، ولم أقل إن كنت سبعاً، وأنا أقول إنّ الإعراب يفسد نوادر المولدين، كما أن اللحن يفسد كلاب الأعراب، لأن سامع ذلك الكلام إنما أعجبته تلك الصورة، وذلك المخرج، وتلك اللغة، وتلك العادة، فإذا دخلت على هذا الأمر الذي إنما أضحك بسخفه وبعض كلام العجمية التي فيه، حروف الإعراب والتحقيق والتثقيل، وحولته إلى صورة ألفاظ الفصحاء، وأهل المروءة والنجابة، انقلب المعنى مع انقلاب نظمه وتبدلت صورته( ).
فلم يأنف الجاحظ بعد أنْ بسط مذهبه هذا من لحن، أو من كلام غير معرب، أو من لفظ معدول عن جهته، حتى قال في كتاب البخلاء:(وإنْ وجدتم في هذا الكتاب لحناً أو كلام غير معرب، ولفظاً معدولاً عن جهته، فأعلموا أنا إنما ترنا ذلك، لأنه الإعراب يبغض هذا الباب، ويخرجه من حده، إلا أن أحكي كلاماً من كلام متناقلي البخلاء، وأشحاء العلماء، كسهل بن هارون وأشباهه)( ).
ولم يقتصر على استعمال اللحن، والكلام غير المعرب واللفظ المعدول من جهته، وإنما أوصي بهذا المذهب، فقال:(ومتى سمعت حفظك الله، بنادرة من كلام الأعراب، فإياك فإن تحكيها إلّا مع إعربها ومخارج ألفاظها، فإنك إنْ غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية، وعليك فضل كبير، وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، ومكحة من مكح الحشوة والطعام، فإياك وأنْ تستعمل فيها الإعراب، ويخرجها من صورتها، ومن الذي ارديدت له، ويذهب استطابتهم إياها واستعلامهم لها)( ).
هذا فيما يتعلق بميله إلى الحرية في التصوير، وإلى الحرية في اللغة، ولذلك لزمنا أنْ نعرف مذاهبه في هذا التصوير، وفي هذه اللغة، ما هي الأصول التي يبنى عليها الفن؟
لم يعثن الجاحظ بشيء في أبواب الفن اعتناءه بالمنسابة بين الألفاظ والمعاني، فإنّ قاعدة (لكل مقام مقال) تكاد تكون أغلب قواعده، فما أكثر ذكره لها في كلامه، وما أكثر ذكره لها في كلامه، وما أكثر تنبيهه على استعمالها، ولا عجب في ذلك، فإذا رأينا كيف يناسب بين ألفاظه ومعانيه، وكيف تكون على أقدار هذه المعانين، عرفنا السبب الذي من أجله يحرص هذا الحرص أن يكون المقال مطابقاً للمقام، فقد نبّه على هذه القاعدة في مواطن كثيرة من كلامه، لا أرى بي حاجة إلى ذكرها كلها، وإنما اجتزئ بذكر بعضها، فمن قوله في هذا المعنى: ولكل حزب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال، وإذا كان موضع الحديث على أنه مضحك وملهي، وداخل في باب المزاح والطيب، فاستعلمت فيه الإعراب، انقلب عن جهته، وإنْ كان في لفظه سخف، وأُبدلت السخافة بالجزالة، صار الحديث الذي وضع على أني سر النفوس، يكر بها ويأخذ بأكظامها( )، أو في قوله:(وقبيح المتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبه، أو رسالة في مخاطبة العوام والتجار، أو في مخاطبة أهله وعبده وأمته، أو في حديثه إذا تحدث، أو خبره إذا أخبر، وكذلك (فإنه) من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب، وألفاظ العوام، وهو في صناعة الكلام داخل، ولكل مقام مقال، ولكن صناعة شكل)( ).
ومثل الإشارة إلى قاعدة: لكل مقام مقال، كثير من كلام الجاحظ ولكن كيف يريد الجاحظ أن يكون هذا المقال؟ ما هي قواعد الإنشاء في نظره؟ أيريد أن يرسل الكاتب كلامه على سجيته، دون شيء من التنقيح؟ أم يريد أن ينقح هذا الكلام؟
اهتم الجاحظ بالتنقيح كل الاهتمام، فهويعلم مقدار فتنة الكاتب بكلامه، فلم يجد أبداً من تنبيهه على التهذيب، فقال:(وينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلّا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلاً، ولا يرضى بالرأي الفطير، فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجباً، فإذا سكنت الطبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاق، وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فيه، فيتوقف عند فصوله، توقف من يكون وزن طعمه في السلامة أنقص من وزن خةفه من العيب، ويفتهم قول الشاعر:(بحر البسيط):
إنَّ الحديث تغر القوم خلوته *** حتى يلج بهم عيُّ وإكثار
ويقف عند قولهم في المثل: هجرٍ في الخلاء يُسر فيخاف أن يعتريه ما اعترى من أجرى فرسه وحده، أو خلا بعلمه عند فقد خصومه، وأهل المنزلة من أهل صناعته، وليعلم أن صاحب القلم يعتريه المؤدب عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يعزم على نفسه خمسة أسواط، فليضرب مائة، لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع، فأراه السكون أنه في الإقلال فلما ضرب تحرك دمه، فأنشاع فيه الحرارة، فزاد غضبه، فأراه الغضب في الإكثار، وكذلك صاحب القلم، فما أكثر من يبتدئ الكتاب وهو يريد مقدار سطرين، فيكتب عشرة، والحفظ مع الإقلال أمكن، وهو مع الإكثار أبعد، واعلم أن العاقل إن لم يكن بالمتتبع، فكثيراً ما يعتريه من ولده، أن يحسن في عينه منه المقبح فيعين غيره، فليعلم أن لفظه أقرب نسباً منه من ابنه وحركته أمس به رحماً من ولده، لأن حركته شيء أحدثه من نفسه وبذاته، ومن عنى جوهره فصلت، ومن نفسه كانت، وإنما الولد كالمخلطة يتمخطها، والنخامة يقذفها، ولا سواء إخراجك من جزئك شيئاً لم يكن منه، وإظهارك حركة لم تكن حتى كانت منك، ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره، وفتنته بكلامه وكتبه، فوق فتنته بجميع نعمته، وليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه، حتى لا يحتاج السامع لما فيه من الرؤية، ويحتاج من اللفظ إلى مقدار يرتفع به عن ألفاظ السفلة والحشوة ويحطه من غريب الإعراب ووحشي الكلام( ).
وقال في مقام آخر:(وليس في الأرض خصمان يتنازعان إلّا كل واحد منها يدعي عدم الإنصاف والظلم على صاحبه، وليس في الأرض إنسان إلّا وهويطرب من صوت نفسه، ويعتريه الغلط في شعره، وفي ولده إلّا الناس في ذلك طبقات من الغلط، فمنهم العرق المعفور، ومنهم من قد نال من الصواب، ونال من الخطأ، ومنهم من يكون خطوه مستوراً لكثرة صوابه، فما أحسن حاله ما لم يمتحن بالكشف، ولذلك احتاج العاقل (في العجب بولده، في استحسان كتبه وشعره، من التحفظ والتوخي، وإعادة النظر والتهمة، إلى أضعاف ما يحتاج إليه في سائر ذلك)( ).
ولكنه على شدة اهتمامه بالتنقيح والتهذيب لا يريد المبالغة، لأنه يعلم أن المبالغة قد تغطي بالكاتب في خاتمة الأمر إلى شيء من التنع والتنطس، فلذلك قال:(وليس له أن يهذبه جداً، وينقحه، ويصقيه، ويروقه، حتى لا ينطق إلّا بلب اللب، وباللفظ الذي قد حذف فصوله، وأسقط زوائده، حتى عاد خالصاً لا نشوب فيه، فإنه إن فعل ذلك، ولم يفهم عنه إلّا بأني جدد لهم إفهاماً مراراً وتكراراً، لأن الناس كلهم قد تعودوا المسوط من الكلام، وصارت أفهامهم لا تزيد على عاداتهم، إلّا بأن يعكس عليها ويؤخذ بها، ألا ترى أن كتاب المنطق الذي قد وسم بهذا الاسم، لو قرأته على جميع خطباء الأمصار، وبلغاء الأعراب لما فهموا أكثره، وفي كلام إقليدس كلام يدور، وهو عربي، وقد صفى، ولو سمعه بعض الخطباء لما فهمه، ولا يمكن أن يفهمه من يريد تعليمه، لأنه يحتاج إلى أن يكون قد عرف جهة الأمر، وتعود اللفظ المنطق الذي استخرج من جميع الكلام. قال معاوية بن سفيان – رضي الله عنهما – لصحارٍ العبدي: ما الإيجار؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ ولا تبطئ، فلو أن سائلاً سألك عن الإيجار، فقلت لا تخطئ ولا تبطئ، وبحضرتك خالد بن صفوان لما عرف بالبديهة، وعند أول رحلة أن قولك لا تخطئ متضمن بالقول، وقولك لا تبطئ متضمن بالجواب، وهذا ما تى آثروه ورضوه، ولو أن قائلاً قال لبعضنا: ما الإيجار؟ لظننت أنه يقول الاختصار، والإيجار ليس يعين به قلة عدد الحروف واللفظ، وقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يسع بطن طومار فقد أوجز، وكذلك الإطالة، وإنما ينبغي له أن يحذف بقدر ما لا يكون سبباً لإغلاقه، ولا يردد وهو يكتفي من الإفهام بشعره، فما فضل عن المقدار فهو الخطل)( ).
وإذا كان الجاحظ يرمي إلى التهذيب والتنقيح، فمن الطبيعي أن يجعل للألفاظ صفات وخصائص، وأني حمل الكاتب على توخي هذه الفصات وهذا الخصائص، ما هي طبائع الألفاظ التي يميل إليها الجاحظ؟ قال في هذا المعنى:(وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة، على حسب نية صاحبه وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفاً، واللفظ بليغاً، وكان الطبع بعيداً عن الاستكراه، منزهاً عن الاختلال، مجوناً عن التكلف، ضع في القلب وضع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فعلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله التوفيق، ومنحها من التأييد، وما لا يمتنع من تعظيمها به حدود الجبابرة، ولا يدخل عن فهمها عقول الجهلة، وقد قال عامر بن عبد القيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان)( ).
فالجاحظ أكبر همه انتخاب اللفظ النبيه الشريف، واجتناب اللفظ الهجين الردئ، فهو يرى قبل أن يشرع الكاتب في الكتابة يلزمه أن يتصور المعنى، ثم يتصور اللفظ على قدر هذا المعنى:(وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيئ المعنى، عشقاً لذلك اللفظ، ونفعاً بذلك الاسم، حتى صار يجر إليه المعنى جراً، ويلزقه به إلزاقاً، حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسماً غيره، ومنعه الإفصاح عنه إلّا به)( ).
هذه يوجه تقريب القواعد التي رسمها الجاحظ في صناعة الكلام، وإذا أجعلنها وجدنا أنها تتعلق بالمناسبة بين الألفاظ والمعاني، وبتنقيح الألفاظ دون شيء من الغلو في هذا التنقيح، وبما يؤدي إليه من انتخاب الألفاظ وتخيرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى