جرعتان والبقية تفاصيل قصة قصيرة بقلم. محمد الصمادي. الأردن
عندما حل المرض اللعين في العالم؛ انتبذ لنفسه في مكان بعيد؛ فهو لا يثق بالأطباء، ولا بوسائل الإعلام. في اليوم الأوّل قال: كيف أثق بالأطباء.
وبالأمس القريب، وفي مستشفى يبعد عن بيته أمتارًا قتلت شابة في مقتبل العمر، بعملية قيصرية، وتبين من التحقيقات التي تجريها وزارة الصحة: أن رأس الطفل الذي قطّع الطبيب أجزاءه بمهارة، حتى يحافظ على حياة الأم.
وسائل الإعلام أوردت تقارير تفيد: أنه لا بد من حصول أخطاء طبية تؤدي إلى الموت، لكننا ضمن النسبة العالمية في مجال الأخطاء الطبية. تذكّر أن القضاء يمنع النشر قبل استكمال التحقيقات.
عند الرابعة من مساء يوم ربيعي ضجّ من خوفه، وتذكّر صديقة الروائيّ؛ امتطى صهوة جواده الأبيض، دائمًا ما يذهب إليه بسيارة سوداء اللّون، لكنها مكتبة تحتوي الكثير من الكتب، ويُخفي فيها عن زوجته الرسائل الورقية، إلا أن ألوانها داخل الكتب تثيرها، وقد أقنعها أن البنوك في عمليات السحب والإيداع تُصدِر أوراقًا مختلفة ألوانها تسر الناظرين.
وتذكّر أنه كان يخفي تلك الأوراق في مكتبة في الجامعة التي عمل بها لتسعة وعشرين عامًا، وقال آخرون: تسعة وعشرون عاماً. تنقص ولا تزيد”.
أوقف سيارته البيضاء الجميلة أمام صالون الإبداع والأدب والثقافة، طلب رواية يقرأها، وهو يقص شعر لحيته الكثّة. تذكر أنّ موسى الحلاقة، ربما ينقل المرض. كان خائفًا من الحلاق أن يجزَّ رقبته كما تفعل الحكومات بشعوبها.
لا عليك كنت هادئًا. اجلس على كرسي الحلاقة بأدب جم ووقار رجل في الستِّين، وتذكر أنه قبل عام كان يحتفل مع أحفاده في عيد ميلاده الستين، وغاب عن احتفال العائلة؛ فقد وعد جارته في الطابق الرابع أن يصلح لها الكهرباء، قبل ساعة من الاحتفال عند الساعة السادسة، وقد اقترب موعد أذان المغرب. في الستين، الرجال مرهفو الإحساس، يقومون بأعمال جليلة يساعدون الأرامل، والسيّدات اللواتي ينشغل أزواجهن في العمل إلى ساعات متأخرة من اللّيل.
وكزه الحلاق “فتحي”: “هل أكملت كتابه روايتك.. مُصوِّرٌ أعمى؟. أفاق على رشّة العطر على مؤخرة رأسه المكتظ بالأحداث.
هل يموت المريض إذا نقص الأكسجين على حين غفلة من ممرضة تغازل طالب الطبّ في غرفته في الطابق الثالث عشر؟.
التحقيق لم يشر إلى هذه المعلومة حفاظًا على المكانة الرفيعة للطب والأطباء، وحتّى لفنيّي المعدّات الطبية، الذين ينسون المرابط على خزان الأوكسجين “رخوة”، حتى لا تنكسر أثناء عملهم مواسير الخزان، التي لا تطابق المواصفات والمقاييس حتى في البلدان الفقيرة.
مد يده على جيبه أخرج ورقة الخمسين، وقال بثقة: هل أجد لديك فكه لها؛ فهي آخر ورقة من الراتب.
أشفق عليه الحلاق كعادته، وقال: مرّة ثانية ستدفع. أعاد الخمسين إلى جيبه سريعًا. غالبيّة المثقّفين من الشّعراء والكتّاب والروائيّين لا يدفعون بسخاء. في صالون صديقنا كما يحدث دائمًا، بدعوى: أن لا ضرورة تحتمُ عليه دفع خمسة دنانير شهريًا على رأسه المُتصحّر.
متناسيًا أن شاربه ولحيته تحتاجان إلى مقص حاد كبير. لا يمكن أن تستمر هذه المهزلة وكزته عدسة آلة التصوير: “استحِ على مستواك في القصة والرواية، ولا تصوبني نحو عقل تلك الفتاة؛ فهي لا تهتم سوى بنظرات الشاعر، وهي تتمنى أن تكون القصيدة، لا الشطر الأخير في بيت شعر كُسِر، ولُويَ عنقه لضرورة شعرية”.
أكمل فنجان قهوته في صالون الحلاقة، وطلب منه فنجانًا آخر، بكأس من الكرتون يشربه أثناء عودته إلى البيت. تعب من التفكير. كيف يقنع زوجته بأن تذهب هي الأخرى إلى الكوافيرة؟ ليتسنى له أن يصلح الكهرباء لصديقه في الطابق الخامس قبل عودة زوجها. تذكر أن جاره، قد تزوج من صديقتها سرًا، وهو مشغول بإنشاء مشروعه الجديد، وتذكر: كيف أقنعها بأن تأخذ قرضًا من صندوق المرأة على راتبها؛ لتجديد البيت وإصلاح ما أفسده الدهر من أثاث، ومرايا محطمة من كرة ابنهما الصغير.
لبس حذاءه الكبير. مسح غبار الطرقات بحركة سريعة في بنطلونه الأسود. صعد الدرج لأن المصعد ما زال معطلًا، وهو ما زال يقنع جيرانه بإصلاح المصعد، رغم أنه في الطابق الأول، ولا يحتاجه كثيرًا، إلا عند تعبئة خزانات المياه كل يوم أحد، وهو يوم عطلته الأسبوعية.
أخرج من رأسه كثيرًا من الأفكار عن جارته، التي تستدين كل شهر جزءًا من راتبه، ولا تعيد ما استدانته منه، لكنها على كل حال تحضر له خلطة، تقول: أنها نافعة، وأن ثمنها يزيد على المبلغ الشهري الذي تستدينه، حتى أنها لا تحتسب فناجين القهوة، رغم أنه مزحت معه. حين قالت: في الفنادق الراقية الفنجان يساوي عشرين دينارًا، عندها لمس مؤخرة رأسه، وقال: في المحمص، فإن كيلو القهوة في علبة فاخرة بستة دنانير فقط.
تذكر أن الأمور لا تُحسب بهذه الطريقة، وأيقن أن جارته لن تعيد المبالغ التي استدانتها، اعتقد أنها ستدفعها، لكنه لم يعرف ما هي الطريقة.
قالت له وهي تضع يدها على يده: الحكومات تقترض من صندوق النقد الدولي، والشعوب تسدد ديون الدول. كما ورد في تقرير “رولا حبيب” في فضائية العربية، وكذلك من لندن في تقرير “نادين فهمي”، التقارير الاقتصادية في العربية، وقناة المملكة الأردنية أكثر وضوحًا من تقارير قناة الجزيرة التي تركز على الصراعات السياسية من منظور آخر.
صديقته في الطابق السادس أخبرته عن تقارير عالمية حول زراعة البندورة، وأبحاث تدعهما الحكومات، لتهجينها وإنتاجها بألوان الطيف.
في غمرة التفكير عن حل لما يعاني من إنسانيته المفرطة، وطيبته تذكر المدرسة الأمريكية وأقساطها المرتفعة، أحلامه بأن يشغل أبناؤه مناصب عليا في الدولة.
خرج مسرعًا من بيت صديقه في الطابق الثاني، عاد إلى البيت، ووجد زوجته تبكي، فقد أضاعت شهادة المطعوم، والبنك يحتاج إلى سند أخضر لسحب أي مبلغ مالي.
-لا عليك غدًا فقد نتدبر الأمر.
-أنا لا أبكي على ذلك، فقد عدت من ساعات ولم أجدكَ في البيت.
-آه.. كنت على السطح، أتفقد خزانات المياه؛ فأنا لا أثق بعوامات خزانات المياه، فكثير منها مغشوشة وغير صالحة. زوجتي الغالية أم أولادي، هل أعددت لنا طعامًا شهيًا، قبل أن نذهب إلى احتفال عيد ميلادي الستين.
-لا.. بل عيد ميلادك الحادي والستين.
تذكر أن الجرعة الثانية من مطعوم “فايزر”، رغم التشويش حول جدوى المطاعيم جميعًا.