ثم ماذا بعد النصر؟
في خضم النصر العسكري الذي يتشكل شيئًا فشيئًا، ومع اكتمال فصول المواجهة ضد مليشيات الجنجويد المدعومة خارجيًا، تتفتح أبواب معركة جديدة أمام السودانيين، إنها ليست معركة السلاح والدماء، بل معركة البناء والإصلاح، معركة المجتمع نفسه، تلك المعركة التي لن يُحسم أمرها إلا بتكاتف الإرادة الصادقة، ورسم طريق وطني يجمع الشظايا المتناثرة لتعيد للوطن هيبته وللإنسان كرامته
لقد تركت الحرب أثرًا عميقًا في النسيج الاجتماعي، حيث تسربت أفكار خبيثة أذكت أحلامًا زائفة حول شخصيات غرقت في أوهام الزعامة.،كانت كلماتهم شعارات براقة صوّرت للناس البسطاء حكايات وهمية عن إنقاذ المهمشين، بينما كانت الحقيقة أقسى وأبشع، إذ سالت دماء الأبرياء لتغذي طموحات شخصية ومصالح ضيقة (لدقلو اخوان) ،ولعل الأسوأ من ذلك هو تواطؤ بعض القوى السياسية التي رأت في تلك الفوضى فرصة لتحقيق مكاسبها، مستغلة جهل الطامعين وأموالهم الملوثة
لقد ساهمت شخصيات مثل المجرم حميدتي، قائد مليشيا الجنجويد، في تضليل البسطاء عبر خطابات مغلفة بشعارات الانحياز للهامش والمهمشين، بينما كان في الواقع يُمهد ليحكم قبضته بالدم والنار، ولم يكن وحده في هذه الخديعة الكبرى، إذ انضمت إليه قوى تنسيقية “تقدّم” بقيادة العميل عبد الله حمدوك، التي ارتضت لنفسها أن تكون أداة تُستغل لتحقيق أجندات خارجية على حساب الوطن وأبنائه،لقد تواطأت هذه القوى مع مرتزقة الداخل والخارج، وروّجت أكاذيب تخدّر الشعب بينما كانت تساهم في توسيع رقعة الخراب
اليوم، يقف السودان أمام مفترق طرق، ما ينتظرنا ليس مجرد إعادة إعمار مادّي، بل إعادة ترميم المعاني والقيم التي اهتزت بفعل الحرب ،نحن بحاجة إلى جبر الضرر وإصلاح الروابط بين المكونات التي انقسمت، وإلى شجاعة الاعتراف بالحقائق ومواجهة الجراح ،لا يكفي أن نوقع على أوراق السلام أمام الشاشات، ولا أن نعقد مؤتمرات تستهلك الوقت والمال دون أن تُحدث أثرًا حقيقيًا في حياة الناس
ينبغي أن تنبثق رؤية وطنية صادقة من داخل هذا الشعب العظيم، رؤية تتجاوز الخطابات القديمة والوجوه المألوفة التي أثقلت مسيرة البلاد بجدلها العقيم ،السودان اليوم في حاجة إلى قيادات شابة، ملهمة، تنبع من رحم المعاناة والتجارب الصعبة، قيادات تحمل روح التجديد والإصلاح وتعيد الأحزاب السياسية إلى دورها الحقيقي كمنابر للوطنية والعمل الجماعي
السلام الذي نطمح إليه ليس مجرد توقيع اتفاقيات ولا وعود تُلقى في المحافل ،السلام الذي نريده سلام يرتكز على التنمية، سلام يجعل من العدالة والكرامة والفرص المتكافئة أعمدة أساسية له، وهذا يتطلب حكومة ذات قلب شجاع، حكومة مركزية تُلهم، وحكومات ولائية تدرك أن واجبها يمتد إلى كل بيت وكل قرية، حكومة لا تخشى الإقدام على اتخاذ القرارات التي تصنع مستقبلًا جديدًا
لقد كانت الحرب التي خاضها السودانيون ضد الجنجويد صفحة ملحمية من الصمود، لكنها ليست النهاية، ما ينتظرنا هو الثورة المدنية، ثورة تعيد للسودان مكانته كدولة قانون ومؤسسات، دولة تجمع أبناءها في مشروع وطني جامع يتجاوز الخلافات ويصنع أفقًا جديدًا
المعركة الحقيقية هي كيف نحول ما خلفته الحرب من ألم إلى طاقة بناء ،كيف نصنع من الدمار درسًا يتعلم منه الجميع، وكيف نكتب فصلًا جديدًا من تاريخنا، عنوانه العزة والكرامة والسلام، عندها فقط، سيكون السودان قادرًا على النهوض، لا كدولة متعافية فحسب، بل كنموذج للصمود والإصرار على الحياة.