منصة عطاءات السودان tender.sd عطاءات السودان
منوعات

ايقونة الادب الاريتري ياسين ازاز يكتب _ رحلة الشقاء والتيه

الحلم … الخدعة التي يروج لها العقل الباطني، اللّاوعينا الواعي، يمنحها سلطة على مسار حياتنا، فيسخر كل الأعضاء لخدمتها في سبيل أن يبتسم العقل الباطني خلف ظهورنا هازئاً منا. لقد اعتدت على ربط الحلم بالأشياء المرعبة، المشاهد المروّعة التي تنقش ذاتها عنوة في ذاكرة كل منا، فنغدو حبيسيها.
حين أكبر لا أحلم سوى بالوطن، لأن كل حلم دون ذلك خيانة لا تغتفر. الآن كبرت، وأدركت ثمة ما يرعب أكثر من الحلم هناك.
كنا صغارا، نفزع حين نرى حلما يرعبنا. قد لا ننام الليلة تلك، نحاول، بقدر ما يستطيع المرء الحكيم أن يفعل، أن نُجنب جفوننا احتضان بعضها؛ الآن قُلبت الموازين، بتْنا نلجأ إلى الحلم حتى ننسى مأساة الحياة وبؤس الواقع!
عزمت على مغادرة لندنْ، في الحقيقة والدي قرر ذلك؛ عقلي صار يعج بالصخب، وقلبي أصبح ينكأ جرحي كلما هرعتْ دقاته توقذ شعور المنفى وأنا التي حزمت حقيبة التيه وتوجهتُ نحو الوطن. أمزجتي تتقلب بين الثانية والأخرى، وكل شعور يأتي عليّ يؤلمني أكثر مما سبق.
***
لقد أتيت إلى هنا، إلى أهلي لكني لم اتصل بهم بعض. ثمة حائل بيني وبينهم، يسعى كل منا لفهم الآخر … يقترب .. فتغدوا المسافة شائكة وواسعة. أشعر، ولعل هذا شعوري النابع من إحساسي بالنقص، وكأني ليس مرغوبا في، ليس مرحباً بي وسط هذه الأمة قاطبة. كان يقيني يزيد بأني منبوذة كلما شرعت بالاقتراب من الصبية اللواتي هنّ في سني، فأراهن يزحفن بقدر ما تتسع لهن المسافة حتى يتلصقن بالجدار الخشن. أتنفس قليلا، قبل أن أحمل خيبتي وأعود إلى عزلتي، متقرفصة في ركني المهجور، وذياك الشعور المضجج بالذل يكسوني من أخمص القدمين حتى مقدمة الرأس.
لم أكد أنسى، حتى تباغتني ذكرى مريرة. أتسمر لولهلة، قبل أن تزحفان قدماي من ثقل التيه الذي يعتريني، اضمد شعور الذل باللجوء إلى الركن المعهود، أتقرفص على هيئتي نفسها فيما لا تكف عيناي من توزيع النظرات نحوهن بالوتيرة ذاتها.
هنا بدأ الخوف يبتلعني بهدوء ممنهج؛ الأصابع ترتجف، رذاذ العرق يسطع في مقدمة الرأس، قبل أن تتسلق حبيباتٍ بخصلات استعصت على انضباط التسريحة وتعلن انفلاتها. تسقط إلى الأرض بهدوء، أحس وكأنها أحدثت دوياً هائلا، اعض على أصابعي وأحاول إعادة تسريحة شعري حتى أُخفي الشامة السوداء في خدي الأيمن، قبل أن أغفل عن لملمت شعري كله فتسقط حبيبات أخرى بالهدوء نفسه.
حين اختفي تماما من انظارهن، تلوّح لي ذاكرتي بنظراتهن القلقة، عينان زبرجديتان وشاخصتان، رموش مكتحلة ترتجف كلما أبصرتُ نحوهن، وتسريحات شعر مهذبة تلتقي خصلات الشعر في مقدمة الجبين. هذه الذاكرة الحبلى باللحظات المريرة لا تزال تعذبني كلما جنحتُ إلى النسيان.
كيف يحتمل أن أنسى، وفي كل ركن من قلبي كنت أشعر ثمة هناك من هم مثلي، تائهون لا يشعرون بالتيهان. لقد أتيت باحثة عن الانتماء، ففوجئت بالتيه المترابط إلى اللانهائي. لماذا يأتي التيه متلوذا خلف كل هذا الالتباس، وقد شددنا الرحال قاصدين معانقة موطن الانتماء بوضوح. صحيح أني أتيت إلى الوطن، لكن خيبتي لم تضمحل. بل تفاقمتْ مثل بالون كلما نفثتَ الهواء فيه زاد توسعا. أتيتُ، وجدت الأرض لكني لم أجد الوطن، استلمتُ الهوية لكني لا أزال أفقد الانتماء.
كنت أدركُهن بالحياة، وكنت أكثرهن تألما. وكلما مرّ علي يوم، ازدادتْ قناعتي بأني لا أصلح إلا لفعل الأشياء التي يراها الجميع ألا جدوى منها. ما ذنبي إذْ عشت بعقل يوحي إلي بأفكار تفوق مستوى إدراكهم؟ إن الغباء نعمة، والذكاء نغمة، والوسطية في كل شيء أجمل، حتى في التيه والانتماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى