
خلال زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة، ظهر ملف السودان بشكل لافت في محادثاته مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث دفع بن سلمان بقوة نحو ضرورة أن تتحرك واشنطن لإنهاء الحرب الدائرة هناك. ورغم أن التصريحات العلنية لم تكشف تفاصيل كثيرة عمّا قاله بن سلمان تحديدًا، إلا أن حديث ترامب نفسه أوضح حجم التأثير الذي تركه النقاش، إذ قال إنّه بدأ «التحرك» نحو معالجة الأزمة بعد ثلاثين دقيقة فقط من شرح ولي العهد السعودي لحجم المأساة الإنسانية في السودان. ما قيل خلف الأبواب المغلقة يبدو أنه كان أكثر وضوحًا، فبن سلمان نقل صورة قاتمة عن الفظائع والانهيار، وقدّم الموضوع بوصفه أزمة إنسانية وأمنية تتطلب تدخّلًا عاجلًا من أكبر قوة دولية.
الدافع السعودي في هذا التحرك لا يرتبط بالسودان وحده، بل يتجاوز ذلك إلى قراءة استراتيجية شاملة. فاستقرار السودان بالنسبة للرياض ليس شأناً بعيدًا، بل جزءًا من أمن البحر الأحمر، ومحورًا مؤثرًا على توازنات القرن الإفريقي، ومساحة تتشابك فيها مصالح دول عدة، بعضها حليف وبعضها منافس. كما أن استمرار الحرب يخلق فراغًا يمكن أن تملأه جماعات مسلحة، ومرتزقة، وشبكات تهريب، ما يشكّل تهديدًا مباشرًا للمجال الحيوي السعودي. ورغم وجود اعتبارات إنسانية واضحة، إلا أن بُعد الريادة الدبلوماسية حاضر أيضًا؛ فالسعودية تريد أن تظهر كقوة إقليمية قادرة على تحريك السياسة الدولية، وإقناع واشنطن بخطوات لم تتخذها طوال عامين من الحرب.
أما ترامب، فرغم أنه معروف بتفاعله المزاجي، إلا أن استجابته لم تكن بلا حسابات. فهو يرى في أي فرصة لإنجاز خارجي سريع مادة سياسية يمكن استثمارها، خاصة إذا تعلق الأمر بإنهاء حرب أو تخفيف أزمة إنسانية كبرى. كما أن العلاقة مع السعودية وثيقة، وإبداء مرونة في ملف يخصها يعزز التحالف السياسي والاستراتيجي معها. وقد وجد ترامب في ما قاله ولي العهد مدخلًا لخطاب إنساني ينسجم مع صورته التي يفضّل أن يقدّم نفسه بها: الرجل القادر على اتخاذ قرار سريع وحاسم. لذلك أعلن فورًا أنه سيبدأ بالعمل على «حل النزاع»، وألمح إلى نية التنسيق مع السعودية ودول عربية أخرى في هذا الاتجاه.
لكن السؤال الأهم هو ما الذي يمكن أن يجنيه السودان فعليًا من هذه المبادرة؟ فعلى المستوى الإنساني، قد يؤدي الانخراط الأميركي—إذا تجاوز التصريحات—إلى زيادة الضغط على الأطراف للقبول بوقف إطلاق نار مؤقت أو دائم، وفتح ممرات آمنة لدخول الغذاء والأدوية، وهو ما يحتاجه ملايين المدنيين اليوم. كما يمكن لتحرك مشترك بين واشنطن والرياض أن يرفع مستوى المساعدات الدولية، ويعيد السودان إلى واجهة الاهتمام العالمي بعد فترة من الإهمال. ومن ناحية أخرى، وجود الولايات المتحدة كوسيط، إلى جانب ثقل السعودية الإقليمي، قد يخلق إطارًا تفاوضيًا جديدًا تكون له القدرة على جمع القوى الإقليمية المتنافسة على طاولة واحدة، بما في ذلك مصر والإمارات والاتحاد الإفريقي، وهو ما افتقرت إليه جهود الوساطة السابقة.
مع ذلك، فإن الطريق ليس مضمونًا. فالتحرك الأميركي قد يتوقف عند حدود التصريح إذا لم تدفعه دوافع ثابتة، خصوصًا في ظل بيئة سياسية أميركية متقلبة. كما أن تعدد المصالح الإقليمية يجعل أي وساطة عرضة للانحياز أو التوظيف السياسي. فالدول التي تصبح جزءًا من الحل هي نفسها أطراف مؤثرة في المشهد السوداني، وبعضها متهم بدعم طرف
على حساب آخر، وهو ما يثير مخاوف حقيقية من يعمّق شوكة الميليشيات بدلاً من تقوية المسار الوطني إضافة إلى ذلك، فإن السودان لن يستفيد من أي مبادرة ما لم يكن للمجتمع المدني والقوى الوطنية موقع واضح في التفاوض، حتى لا تتحول الحلول إلى ترتيبات فوقية تُفرض عليه دون تمثيل حقيقي.
في النهاية، مبادرة محمد بن سلمان وقبول ترامب لها تشكل فرصة—وربما أول نافذة جدية منذ شهور—لكنها ليست ضمانة. قيمتها الفعلية للسودان تعتمد على مدى استعداد الولايات المتحدة للمضي أبعد من الأقوال، وقدرة السعودية على جمع الأطراف الإقليمية، واستعداد القوى السودانية نفسها لاستثمار هذه اللحظة بما يخدم مصلحة الشعب لا مصلحة السلاح. وبين احتمال أن تكون المبادرة نقطة تحول، أو مجرد خطوة إعلامية تبقى معلّقة في الهواء، يقف السودان في انتظار فعل دولي قادر على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من وطن أنهكته الحرب.




