
في شرق السودان، حيث تلتقي الخضرة بسخاء الأرض، تقع ولاية القضارف، جوهرة الاقتصاد الوطني وسلة الغذاء التي لا ينكر فضلها أحد. هي أرض الذهب والذرة، والماشية والسمسم، والفرص الواعدة التي تلمع في كل شبر من ترابها، ولكنها—للأسف—ما زالت تئن تحت وطأة التهميش التنموي المزمن.
القضارف غنية بكل ما يمكن أن تنهض به دولة: تربة خصبة، أمطار غزيرة، ملايين الأفدنة الصالحة للزراعة، نشاط رعوي كثيف، وثروات معدنية دفينة، على رأسها الذهب الذي بدأ التنقيب عنه حديثًا بوتيرة متسارعة. ومع ذلك، فإن هذه الولاية، بكل ما تمثله من ثقل اقتصادي، تعاني من أزمات هيكلية تجعلها وكأنها خارج حسابات الدولة.
العطش في قلب الخضرة و الذهب
مدينة القضارف نفسها—عاصمة الولاية—تعيش أزمة مياه مزمنة، وكأنها في قلب صحراء لا تطل على أي مصدر للحياة. المواطنون يصطفون أمام آبار المياه لساعات، فيما تتلاشى الوعود الموسمية بحلول جذرية. والأمر لا يختلف كثيرًا في الأرياف والقرى التي باتت تعتمد على الحفائر والآبار السطحية، في ظل ضعف شبكة المياه الرسمية.
الكهرباء… الحلم المؤجل
الكهرباء أيضًا تمثل تحديًا آخر، إذ لا تزال معظم المناطق خارج التغطية، وتلك التي تصلها الخدمة تعاني من انقطاعات متكررة. كيف يمكن لولاية تعتمد على الزراعة والصناعة التحويلية أن تنهض دون طاقة مستقرة تدير الآلات وتحفظ المحاصيل؟ إنه سؤال يؤرق المزارعين والمستثمرين على حد سواء.
طرق بلا ملامح
الطرق، وهي شرايين الاقتصاد، لا تزال متواضعة، وإن وُجدت فهي تفتقر للصيانة، ما يعوق حركة الإنتاج من المزارع إلى الأسواق، ويزيد من تكاليف النقل والتوزيع. الطريق القومي الرابط بين القضارف وبقية ولايات الشرق مثل كسلا وبورتسودان بحاجة ماسة للتوسعة والتأهيل، ناهيك عن الطرق الداخلية التي تقطعت بها السُبُل.
أين الدولة؟ وأين أبناء الولاية؟
في ظل كل هذه التحديات، يبرز سؤال جوهري: أين الدولة من هذه الولاية التي ترفد خزينة السودان بالمليارات سنويًا؟ وأين النخبة من أبناء القضارف—داخل السودان وخارجه—من مشروع تنمية حقيقي يعيد لهذه الولاية حقها الطبيعي؟
المرحلة القادمة تتطلب شراكة ذكية بين الدولة والقطاع الخاص وأبناء الولاية أنفسهم، لبناء بنية تحتية تليق بالقضارف، وتُهيّئ لها بيئة استثمارية متكاملة تُطلق طاقاتها الهائلة.
القضارف ليست مجرد ولاية مهمّشة؛ هي فرصة وطنية ضائعة حتى الآن. إن لم تُحتضن الآن، في لحظة يشتد فيها الخناق الاقتصادي على السودان، فمتى؟