
لم تعد الحرب في السودان مجرد صراع داخلي، بل تحوّلت إلى مواجهة كبرى تتجاوز حدود الخرطوم وتمتد إلى كامل الإقليم. فالسودان اليوم يقاتل مليشيا مسلّحة لا تهدد وجوده فقط، بل تهدد توازن المنطقة ومصالح الدول المحيطة به، وفي مقدمتها مصر. وهذا يجعل من انتصار الدولة السودانية ليس خيارًا وطنيًا فحسب، بل ضرورة إقليمية ترى القاهرة أنها ستكون أول المستفيدين منها.
إن تدهور السودان خلال العامين الماضيين كشف بوضوح حجم الترابط بين أمن الخرطوم وأمن القاهرة. فالسودان لم يكن يومًا مجرد جار جغرافي، بل كان جدارًا استراتيجيًا يحمي الجنوب المصري، ومساحة استقرار تعتمد عليها مصر في مواجهة تحديات المياه، والحدود، والبحر الأحمر. ومع انزلاق الدولة السودانية نحو الفوضى وتمدّد المليشيات، أصبح السؤال في القاهرة أكبر من مجرد متابعة الأخبار: ماذا يعني سقوط السودان بالنسبة لمصر؟
على المستوى الأمني، أدى تفكك مؤسسات الدولة السودانية إلى خلق حدود قابلة للاختراق، يمكن أن تتسلل عبرها شبكات تهريب السلاح والمقاتلين، وهي أخطار تضرب عمق الأمن القومي المصري مباشرة. فالسودان الذي يقاتل اليوم لاستعادة دولته لا يحمي نفسه فقط، بل يحمي مصر من جنوب قد يتحوّل إلى ممر للفوضى إذا انتصرت المليشيا.
وتتحمّل مصر أيضًا جزءًا من تبعات الأزمة الإنسانية الناتجة عن الحرب، بعد استقبالها أعدادًا كبيرة من السودانيين الفارين من مناطق الاشتباكات. ورغم التعامل الإنساني الذي اتسمت به القاهرة، إلا أن استمرار النزوح بهذا الحجم يفرض ضغطًا متزايدًا على الخدمات والبنية التحتية، ما يجعل إنهاء الحرب في السودان مصلحة مشتركة للبلدين.
أما على مستوى نهر النيل، فإن غياب الدولة السودانية عن ملفات المياه يجعل مصر في موقف أكثر هشاشة. فالسودان الحاضر والقوي هو شريك أساسي في حماية المصالح المائية التاريخية لمصر، بينما السودان الضعيف يترك فراغًا قد تستفيد منه أطراف تسعى لإعادة تشكيل موازين القوة في حوض النيل بطريقة تهدد القاهرة بشكل مباشر.
ويبرز البعد الإقليمي للحرب بشكل أوضح عندما يتعلق الأمر بالمليشيا التي تقاتل الدولة السودانية. فهذه المليشيا مدعومة خارجيًا وتعمل خارج منطق الدولة الوطنية، وتمثل نموذجًا خطيرًا إذا قُدّر لها أن تحكم السودان. فتمكينها سيحوّل الخرطوم إلى منصة للنفوذ الإقليمي المتضارب، ويجعلها مركزًا مفتوحًا لتجارة السلاح والذهب والمرتزقة. ولأن مصر هي الدولة الأكثر ارتباطًا بالسودان جغرافيًا وسياسيًا، فإن ارتداد هذا النموذج سيصل القاهرة قبل غيرها.
وعلى البحر الأحمر، يشكّل السودان محورًا أساسيًا في منظومة أمن الملاحة. ومع تصاعد دور المليشيا في مناطق ساحلية، يصبح تهديد التجارة البحرية مسألة لا يمكن تجاهلها. فالاستقرار في السودان يعني استقرارًا في الإقليم، خصوصًا في ممرات تعتمد عليها مصر اقتصاديًا واستراتيجيًا.
إن السودان، وهو يخوض معركته ضد المليشيا، يقاتل فعليًا دفاعًا عن فكرة الدولة في الإقليم، وعن استقرار يجب أن تحرص عليه مصر قبل أي جهة أخرى. وانتصار السودان ليس مكسبًا للخرطوم وحدها، بل مكسب للقاهرة أيضًا: مكسب لأمنها، ولحدودها، وللمياه، وللاقتصاد، وللمعادلة الإقليمية التي تطمح إلى الحفاظ على توازن يمنع المليشيات من التحوّل إلى بديل للدولة.
لذلك، فإن دعم مصر للسودان في حربه ليس موقفًا سياسيًا فقط، بل هو استثمار مباشر في أمنها القومي، وفي مستقبل المنطقة التي لا تحتمل قيام كيان مسلّح على حساب دولة تمتد جذورها إلى عمق التاريخ والجغرافيا المشتركة.




