المليشيا تستهدف المستشفيات ومعسكرات النازحين في شمال دارفور .. الفاشر..مدينة تحت القصف
تقرير :رحمة عبدالمنعم
في قلب الحرب المستعر الذي يلتهم الأرض ويهدم الإنسان، تقف الفاشر اليوم شاهدة على فصول من الألم لا تنتهي ،كانت الفاشر، يوماً، مدينة تتموج فيها الحياة؛ أسواقها تعج بالحركة، وطرقها تعج بالوجوه الطامحة للأمل، لكن الآن، أصبحت مدينة مكبلة بجراحها، وقُيّدت حريتها بأغلال الحرب، الشوارع التي كانت تعج بالضحك أصبحت الآن فارغة، وتلك الأسواق التي كانت تبيع الفرح صارت خالية من البائعين والمشترين، كما لو أن الموت قد وضع ثقله على كل زاوية فيها. مع كل قذيفة تسقط على الأرض، تتساقط معها الحكايات، تتناثر الأماني، وتذوب الأحلام في هواء المدينة المحمّل بالغبار. وفي كل يوم يمر، يزداد الألم حدة، لكن ما تبقى من الأمل في قلوب الناس يدفعهم للتمسك بالحياة، رغم أن الموت يتربص بكل خطوة يخطونها.
ملاذ للأمل يتحطم
في زوايا مستشفى الفاشر السعودي، حيث كانت الأرواح تبحث عن الأمل، سقطت القذائف لتروي قصة أخرى من قصص الموت، كان هذا المستشفى، الذي صمد طيلة شهور الحرب، هو آخر ما تبقى للمدينة من شريان حياة، قذائف مليشيا الدعم السريع لم تترك حجراً على حجر داخل أسواره، لكن الأطباء والمرضى الذين كانوا يركضون في الأروقة بأمل، لم يدركوا أن هذا المكان الذي كانوا يظنونه مأمناً لهم، سيكون هو نفسه هدفاً للدمار، في الهجوم الأخير، سقطت 11 قذيفة على المستشفى، فدمرت بعض المباني، وتضررت السيارات، لكن الغريب أن القذائف لم تقتل أحداً، بل كان الموت يراقب بصمت، يختبئ وراء الخراب، أمل الفاشر في البقاء، أمل المرضى في الشفاء، سقط مع تلك القذائف، وذبلت زهور الحياة التي كانت تفتخر بها المدينة ،فحتى المستشفيات، التي كانت تمثل خلاصاً لأوجاع البشر، أصبحت هدفاً للخراب
استهداف المستشفيات
لم يكن مستشفى الفاشر السعودي الوحيد الذي تعرض لهجوم. فإلى جانب ذلك، كان مستشفى الفاشر للنساء والتوليد الذي ظل صامدًا في وجه الرياح العاتية للحرب، أحد الأهداف المتكررة للمليشيا، كان هذا المستشفى مصدر الأمل للنساء الحوامل، ملاذاً لأطفالهن الذين لم يروا النور بعد ،في وسط الخراب الذي خيم على المدينة، كان هذا المكان يمثل آخر بصيص من الحياة وسط الظلام، لكن قصف المستشفى، مرة تلو الأخرى، جعل منه رمزاً جديداً للحزن ،لم يعد المستشفى مجرد مكان لاستقبال المرضى، بل أصبح رمزاً للتحدي، ورمزاً لفقدان الأمل ،فكيف يمكن للإنسان أن يظل يقاوم في مواجهة قذائف لا ترحم؟ كيف يمكن أن يظل يقاوم عندما لا يُسمح له بأن يلتقط أنفاسه؟
ضحايا الحرب المستمرة
في كل زاوية من الفاشر، هناك دماء في كل بيت، هناك قصة فقد ،القذائف لا تميز بين من يحمل السلاح ومن يحمل الأمل، بين من يقاوم ومن يستسلم، المدينة التي كانت تأوي الآلاف من الأبرياء، أصبحت اليوم تحت رحمة القصف المدفعي المستمر في معسكر أبوشوك، حيث يعيش مئات الآلاف من النازحين الذين تركوا بيوتهم وأرواحهم خلفهم، سقطت قذائف أخرى، لتقتل شخصين وتجرح ثمانية آخرين، بينهم أطفال ونساء، هؤلاء المدنيون، الذين لم يكن لهم ذنب سوى أنهم كانوا يسعون للنجاة بحياتهم، كانوا أول ضحايا هذه الحرب، الجروح التي لا تداويها الأيام، والآلام التي لا تخففها الكلمات، هي التي تبقى في ذاكرة الفاشر، تلازم أناسها الذين ينتظرون أن يروا النور في نهاية النفق، رغم أن النفق يبدو بلا نهاية.
أهداف جديدة في الحرب
كان مستوصف “نبض الحياة”، وسط سوق الفاشر، بمثابة طوق النجاة الأخير للمدنيين الذين أصبحوا أسرى للدمار، بعد شهورٍ من الإغلاق بسبب الحرب، أُعيد افتتاح هذا المستوصف ليخدم المرضى في المدينة، ولعله يخفف من وطأة المعاناة التي يواجهها المواطنون، لكن كما هو الحال في معظم قصص الحرب، لم يدع القصف هذه المكانات تصمد، وبعد إعادة افتتاحه، كانت قذائف مليشيا الدعم السريع على موعد مع هذا المستوصف، لحظة انفجار القذيفة كانت كفيلة بتدمير جزء من الأمل. قُتل شخصان وجرح آخرون، وأُغلِق المستوصف مجدداً، القصف لم يفرق بين العائلات، كما لم يفرق بين الأبرياء. أصبح كل مكان في الفاشر هدفاً، وكل لحظة فرصة جديدة للموت.
الهروب من الجحيم
الحرب في الفاشر لا تترك لأهلها إلا خياراً واحداً: الهروب، نزح أكثر من 328 ألف شخص من المدينة، تركوا خلفهم منازلهم، وأحلامهم، وأسرهم، بحثاً عن مكان يقيهم شر القذائف، ولكن هذا الهروب لم يكن سوى هروباً مؤقتاً ،حتى في الأماكن البعيدة عن المدينة، تتواصل الهجمات، ويتواصل الألم ،الهاربون من جحيم الفاشر لم يجدوا أماناً في جبال مرّة أو مليط أو شنقل طوباي، فحتى هناك، لم يهنأ لهم بال، لأنهم لم يهربوا من الحرب، بل من الذاكرة التي لا تنفصل عنها،فكل مكان في الفاشر يحمل بصمات الحرب، وكل زاوية تروي قصص الفقد.
مدينة للألم والأمل الضائع
اليوم، لم تعد الفاشر مجرد مدينة تقع في شمال دارفور، بل أصبحت رمزاً للدمار والمأساة، كل جدار فيها، وكل شارع، وكل بيت، يحمل جرحاً لا يُندمل، الفاشر التي كانت يومًا عاصمة للسلام، أصبحت اليوم عاصمة للموت، وأرواح أهلها التي كانت تُنادي بالحياة، أصبحت تُنادي بالرحيل، فمتى ستنتهي هذه الحرب؟ ومتى ستنتهي معاناة هؤلاء الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في زمنٍ لا يعرف الرحمة؟ ربما لا أحد يعرف الإجابة، ولكن المؤكد أن الفاشر لن تكون كما كانت، ولن يكون أهلها كما كانوا.