المتمرد الحر… بقلم / هاشم محمود
عاش محمد إدريس حياةً هادئة وسط أفراد أسرته؛ فوالده يعمل بحرفة الزراعة وتربية الماشية، تدرج في تعليمه بين دراسة القرآن الكريم بكتاتيب تلك القرية، ثم المعهد الديني، فأكمل بالمدرسة الرسمية عامَه السادس، وكعادة كل نابغة تفوَّق محمد علي كل زملاءه، ومن هنا بدأ الجميع ينتبهون إليه.
كثيرًا ما كان محمد إدريس يساعد والده في مواسم الفلاحة، وظل ساعدَ أبيه الأيمن في كل أمور الحياة، مما أكسبه احترام الكبار قبل الصغار.
ولم يكن كبقية أترابه ممن انغلقوا على أنفسهم وانشغلوا بحيواتهم الخاصة ومتعهم الصغيرة؛ بل كان مهمومًا بقضية شعبه، ولذلك كان كثيرًا ما يستمع إلي حلقات النقاش التي كان يملأها الكبار بأحاديث الوطن وقضاياه، وبينما كان الحوار فيها يحتدم ويثور، كان هو يستمع ويُنصت بكل هدوء.
هنا تفوَّق علي جيله من الأطفال، وتعرف على الثورة بتقسيماتها المختلفة وتنظيماتها المبعثرة، وانكساراتها وعنترياتها في النشرات الدورية التي تصدر من هنا وهناك، تُمجد فصيلًا أو قائدًا أو معركة وهمية من خيالٍ بارع بالوصف للزمان والمكان.
عاش محمد إدريس كل تناقضات مجتمعه؛ سواء أكانت مناطقية أو قبلية أو حتي حزبية.
وفي المرحلة الإعدادية زاد نبوغه، فسطَّر اسمه وسط زملاءه، مقدمًا البرامج الصباحية ومساهمًا في تحرير الصحيفة الحائطية وهو بالفصل الدراسي الأول، مُنافسًا الكبار، مُستعرضًا قدراته الكبيرة.
حتي لفت الأنظار كلها إليه، وحظي باهتمام كبير من قِبل إدارة المدرسة.
لقد بهرهم بلسانه العربي البليغ، وقدرته الفذة على الإقناع والمحاججة، كيف لا؟ وهو ابن تلك المؤسسات الدينية العريقة التي أجَّجتْ فيه شعلةَ العلم، ومكَّنته من لغة البيان التي يسوقه لمراداته كيفما شاء، وجعلته قادرًا على المجادلة بالتي هي أحسن؛ حتى كُتبت له الغلبة في كلِّ حوار دار بينه وبين من يخالفونه الرأي أو يميلون إلى غير الذي إليه يميل.
وكعادته أحرز درجة عالية في دراسته الأولية، أهَّلته للالتحاق بالثانوية العليا، فأبدع لجمعية اللغة الإنجليزية، وكسب احترام رفاقه، وظلَّ يقدم البرامج الثقافية والاجتماعية؛ بل خاض تجربة جديدة حين تم اختياره أمينًا للشؤون الاجتماعية باتحاد الطلاب في تلك المدرسة.
وظلت تسيطر عليه ذكريات المراحل السابقة، وتؤرقه هموم وطنه.
بالثانوية العليا كثر احتكاكه بجماعات كثيرة وجديدة؛ فليس القوم هم القوم، وإنما هنا أمم متعددة؛ بل ثقافات أخرى.
شهد الجميع لمحمد إدريس بأنه نابغة، وصاحب إمكانيات كبيرة ومهارات متعددة.
وفي الجامعة تكونت شخصيته من كل تلك الخلفيات المتعددة.
أطلق عليه أبناء دفعته الخبير، وبعضهم الدبلوماسي.
ظل قريبًا من مدراءه المباشرين؛ وذلك لحنكته وجراءته في طرح المواضيع.
ظل بعض أقرانه بالمرحلة الابتدائية والمتوسطة في مناطقهم، فلم تسعفهم الظروف لإكمال الدراسة، وبعضهم قد فشل أكاديميًا.
وبمرور الأيام والسنين فرضت عليه الحياة مغادرة الديار، والعيش بعيدًا عن مسقط رأسه، فتعرف علي أصناف عديدة وجنسيات مختلفة،
وظلَّ يقدم كل خير لمن يعرفه ولمن لا يعرفه، وتعرف على أبناء المجتمع الذي ينتمي إليه، والتقى بالعديد من أبناء وطنه.
تقرب البعض منه بحجة أنهم أقرباءه، وتنفيذًا لوصية والده تعامل مع الجميع بحسن نية، وظل على عهده وفيًّا لتلك الوصية.
وفي الغربة توفي والده، فكانت قاصمة الظهر بالنسبة له، كما كانت أيضًا نقطة تحول كبرى في حياته، ولسبب ما نظر حوله، فلم يجد أكثر من كان يعرفهم؛ فقد اختفى الأقربون والمدعون والمنتفعون، وظهر الأوفياء، لمعت معادنهم جميعًا، فظهر الغالي النفيس، وعرف الزائف.
وحينها غيَّر محمد إدريس سياسته في التعامل مع الجميع، وظلَّ حبيسًا منطويًا يراقب ردة أفعالهم.
التفتَ الي اليمين ثم إلى اليسار، فلم يجد إلا الأنقياء منهم، والذين لم يقدم لهم سوى الكلمة الطيبة، كما ذاع صيته في مهمته الإضافية، والتي تُعتبر خدمة للأجيال القادمة.
فتحول بعض أصدقاء الأمس إلى خصوم، ولم يخجلوا من أن يجاهروا بالعداوة، كان هدفهم هو النيل منه بعد أن استطاع أن يتجاوز الصعاب، إلا أنه اكتفى بالصمت أمام هجومهم غير المبرر.
صار يُقيم تجربته المستقبلية، ويخطط لأهداف أسمى وأنبل، وتركهم يتقافزون ويثرثرون، فأصبح الكل يُدلي بدلوه دون علم أو قراءة او تجربة، وظلت قِلة قليلة من زملاءه في الدراسة يدافعون بقوة عن تجربته التي شهد لها الكثير.
لم يتأسف محمد علي فعلتهم هذه؛ بل زادته قوة فوق قوة، واعتبرها درسًا من دروس الحياة الكثيرة، التي تحتاج إلى ثمن لا وأن يُدفع، وكانت ثمرتها نجاحًا وصل إليه بمثابرته.
إذا أردت أن تعرف قَدر مَن حولك فحقِّق تقدمًا يصعب علي الفاشلين تحمله فالحاقدون سيتخندقون وينتظرون لحظة سقوطك.
لا تنتظر من أحدهم خيرًا؛ بل واصل في مسيرتك إلي بلوغ غاياتها، ومن صار وصل؛ هكذا ظل محمد إدريس يردد ويتذكر وصية والده إليه.
ومن بين أصدقاء الأمس من تحول إلى معسكرات مناطقية وقبلية؛ دفاعًا عن من لا يعرفه، ومتحالفًا مع مجموعة من الوصوليين الأفاقين، الذين يأكلون على كل الموائد، أو المنافقين الذين يتملقون كل حاكم، ويُصفقون لكل مسؤول كبير، ولم تعجبه الحال، فانصرف عن هذا الواقع المزعج، وعزَّ عليه أن يكون تابعًا صغيرًا لأي أحدٍ كائنًا من كان.
ونفرَ من تلك المجتمعات ذات الطابع المناطقي أو القبائلي، وإن ظل يتمنى أن يرجعوا إلى صوابهم، ويدعوهم بالتي هي أحسن، ويُنبههم إلى خطر العادات المنبوذة؛ لعلهم يترفعون عنها!