مرّ العام 2024 على السودان كعامٍ مثقلٍ بالفقد والحزن، حيث غيّب الموت أقلاماً بارزة وأسماءًا لمعت في سماء الصحافة السودانية، رحل هؤلاء الصحفيون وهم يحملون في وجدانهم هموم وطن وأحلام أجيال، تاركين إرثاً خالداً من العمل الجاد والكفاح من أجل الحقيقة.
في عام 2024، فقدت الصحافة السودانية عدداً من أبرز الإعلاميين الذين أثروا الساحة الصحفية والإعلامية لعقود طويلة، رحيل هؤلاء ترك فراغاً كبيراً في مختلف المجالات الإعلامية، من الكتابة الصحفية إلى الإذاعة والتصوير. كل واحد منهم كان له بصمة خاصة، حيث ساهموا في تشكيل الوعي الوطني والتعبير عن قضايا الشعب السوداني بطرق شتى، رحيلهم لا يمثل فقط خسارة كبيرة للمجال الإعلامي، بل أيضاً للمجتمع السوداني بأسره الذي كان يستمد منهم الإلهام والمصداقية في أصعب الأوقات.
محجوب محمد صالح: عميد الصحافة السودانية
في منتصف فبراير، فقد السودان عميد صحافته، محجوب محمد صالح، الذي رحل عن عمر ناهز 96 عاماً بعد رحلة امتدت سبعة عقود في خدمة الإعلام والعمل الوطني، كان صالح رمزاً حياً للصحافة السودانية، وخازناً لأسرارها، وأحد مؤسسيها الحقيقيين، شارك في تأسيس صحيفة الأيام في خمسينيات القرن الماضي مع الراحلين بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان، وهي صحيفة أصبحت منبراً للحرية والديمقراطية ومرآة تعكس أحوال السودان بكل صدق وجرأة
لم يقتصر دوره على الكتابة الصحفية؛ فقد أنشأ مركزاً لتدريب الصحفيين يحمل اسم الصحيفة، ليُخرّج أجيالًا متعاقبة من الإعلاميين المتمكنين الذين ساهموا في بناء صرح الصحافة السودانية، عُرف بعموده الشهير أصوات وأصداء، الذي تميز بتحليله العميق للأحداث السياسية والاجتماعية، وتناوله لقضايا المواطن السوداني بشفافية وموضوعية،ألف كتبًا عديدة مثل تاريخ الصحافة السودانية في نصف قرن وأضواء على قضية الجنوب، مقدمًا رؤى استشرافية حقيقية لمستقبل السودان.
ظل صالح مخلصاً لمبادئ الحرية والديمقراطية حتى آخر لحظة من حياته، ليبقى رمزًا لا يُنسى في تاريخ السودان، ومدرسة متكاملة للعمل الصحفي الراقي.
الفاتح جبرا..صوت السخرية الجريئة
في إحدى مستشفيات القاهرة، رحل الكاتب الصحفي الفاتح جبرا بعد صراع طويل مع مرض القلب، كان جبرا من أقوى الأصوات الصحفية السودانية وأكثرها جرأة، حيث عُرف بكتاباته التي تصدت لقضايا الفساد وكشفت خبايا النظام البائد في فترة كانت الصحافة فيها محاصرة بقيود الرقابة والاعتقالات.
اشتهر بأسلوبه الساخر الذي جذب القراء وجعلهم يتابعون أعمدته بشغف، لا سيما عموده الشهير ساخر سبيل الذي نُشر في صحيفة الجريدة،كتب أيضًا في صحف أخرى مثل الرأي العام والسوداني والخرطوم، حيث عالج القضايا الوطنية من زوايا مبتكرة، مستخدماً روح الفكاهة لنقل رسائل عميقة ومؤثرة.
تميز جبرا بمهنيته العالية وشجاعته في طرح القضايا، وظل ملتزمًا بالدفاع عن حقوق الشعب السوداني حتى آخر أيامه. برحيله، فقد السودان قلمًا مميزاً وناقداً بارعًاً سيبقى في ذاكرة كل من قرأ له.
هدى حامد..قصة حرب وألم
لم تكن وفاة الصحفية هدى حامد مجرد رحيل عادي، بل جاءت تجسيداً لألم الحرب المستعرة التي أنهكت السودان، تعرضت للدغة ثعبان سام في منطقة الحاج يوسف، حيث كانت تعيش وسط المعارك العنيفة، كتبت هدى مناشدات مؤثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، طالبة الإجلاء لها ولابنتها الوحيدة، قائلة: “أصدقائي الأعزاء، أرجو منكم دعمي للخروج إلى مكان أتمكن فيه من إيجاد مصدر دخل يحميني من الحاجة، لأضمن مستقبل ابنتي الوحيدة.”
كانت المناشدة صرخة استغاثة من قلب الخرطوم التي فقدت معظم خدماتها الأساسية. ومع استجابة بعض الصحفيين لمساعدتها، إلا أن القدر كان أسرع، لترحل وهي تحمل هموم وطن وألم أمٍّ تخشى على مستقبل طفلتها، تركت هدى، التي كانت رئيسة تحرير موقع سوداني بوست، أثراً لن يُمحى في ذاكرة من عرفوا قصتها.
محمد الخاتم: معاناة مرض ومأساة وطن
عانى الصحفي الشاب محمد الخاتم من مرض فقر الدم لسنوات، لكن ظروف الحرب ضاعفت من معاناته. ظل محاصرًا مع أسرته في الخرطوم، حيث لم تتوفر وسائل لمغادرة المدينة أو الحصول على العلاج. ومع تدهور حالته الصحية، تمكن من الوصول إلى القاهرة بصعوبة، لكنه دخل في غيبوبة استمرت أربعة أيام قبل أن يفارق الحياة.
عمل الخاتم محرراً في صحيفتي الجريدة واليوم التالي، وكان مثالًا للصحفي المخلص الذي يعمل في صمت رغم التحديات. جسدت رحلته مع المرض والحرب مأساة الصحفيين السودانيين الذين يواجهون ظروفًا قاسية دون أن يفقدوا شغفهم برسالتهم الإعلامية.
منال بسطاوي: شهيدة تدوين المليشيا
لقيت الصحفية منال بسطاوي مصرعها مع طفلها إثر تدوين لمليشيا الدعم السريع استهدفت حافلة ركاب في أم درمان ،كان جزءاً من سلسلة اعتداءات طالت المدنيين الأبرياء في مناطق الحرب. منال، التي كانت زوجة المصور الرياضي محمد دفع الله، حملت معها قصة أمٍّ فقدت حياتها مع طفلها في لحظة مأساوية، لتصبح رمزاً إنسانياً للحرب التي لم ترحم أحدًا.
جاهوري.. العدسة التي وثقت للسودان
غادرنا شيخ المصورين مدني عبد الرحمن جاهوري، الذي أبدع في تصوير كل ما هو جميل وصادق في السودان، عمل جاهوري في صحف عديدة مثل الأيام والرأي العام، وحاز على لقب “شيخ المصورين” عن جدارة، بفضل عدسته التي التقطت صورًا ناطقة بمعاناة الشعب السوداني وأحلامه.
عبود سيف الدين: المايسترو الإذاعي
فقد السودان في مايو الإعلامي والمخرج الإذاعي عبود سيف الدين، الذي قدم إسهامات كبيرة في مجال الإعلام، عمل في إذاعة أم درمان وعدة إذاعات ولائية، وأسهم في تأسيس إذاعات مثل هوى السودان وبلادي ،كان عبود نموذجًا للإعلامي الذي يحمل على عاتقه مسؤولية التنوير وتقديم رسالة هادفة.
نميري شلبي: الساخر الرياضي
رحل الصحفي نميري شلبي في الإمارات، تاركاً إرثاً من العمل في الصحافة الرياضية والسخرية الاجتماعية،عُرف بشخصية “حاج نظرية”، التي حظيت بشعبية واسعة في التسعينيات، وعمل في صحف اليوم التالي والمريخ.
محمد عبد الكريم: صوت الإيمان والسلام
كان الصحفي محمد عبد الكريم المجذوب وجهاً مألوفاً في الإذاعة السودانية، حيث قدم برامج دينية تركت أثراً عميقاً لدى المستمعين، مثل نفحات الإيمان وسهرة الجمعة، عمل في عدة إذاعات ولائية وأدار إذاعة القرآن الكريم، حيث قدم محتوى غنيًا بالقيم الروحية والإنسانية.
عام 2024 سيظل شاهداً على فقدان السودان لصحفييه الذين شكلوا جزءاً لا يتجزأ من مسيرته الإعلامية. رحلوا، لكن ذكراهم ستبقى شعلة تنير دروب الحقيقة للأجيال القادمة.