الروائي الكبير هاشم محمود يكتب _ العذراء والكلس
– سعدية .. سعدية يا سعدية يا سعدية.
– توقفي عن المناداة يا أمي هي لن تسمعك .. هي في ملكوت آخر.
– اذهبي وأحضريها لتساعدني في تجهيز الطعام، الوقت يجري مسرعًا، ولم يبق سوى ساعتين على أذان المغرب.
-هيا اذهبي.. والدك على وشك القدوم ومعه الضيوف.
-من الضيوف يا أمي؟
– توقفي عني الحديث، لا وقت للشرح يا بنتي؟
– سعديه سعدية.
لا تجيب الفتاة فتضطر أختها هدى أن تربت على كتفها لعلها تدرك فتفيق من غفلتها.
ما الأمر؟
لا وقت اسرعي .. ألا تسمعين كل هذه المناداة؟!
خير.. ماذا يجري؟
ألم تسمعي كل هذا النداء؟ الوقت يمر، والوالدة لم تنته من إعداد الطعام، وعليك أن تساعديها.
ألم تعلمي أن هناك أشخاصًا سيأتون مع والدك؟
لا أعلم، على أية حال هيا بنا.
نعم يا أمي ماذا تريدين؟
كل ذلك ولم تسمعي ! انتِ يا بنتي مش صايمه زينا ! وفيه أكل وفيه مائدة لازم تجهز! وفيه ضيوف لازم نجهز لهم كل حاجه قبل الوصول.
حاضر
تنفذ سعدية ما تطلبه والدتها على أكمل وجه لكن أمها تشعر بالضيق منها، تريد أن تصب عليها غضبها، فهي حاضرة ومطيعة، لكن في الوقت نفسة غائبة ومشتتة الذهن، هي معها طوال الوقت رغم ذلك فروحها غائبة ومحلقة، وكأنها من أهل السماء وليست من أهل الأرض.
الفتاة الشاردة
سعدية فتاة رقيقة جدًّا على قدر عال من الجمال، مطيعة للجميع، لا تنطق كلمة لا أبدًا، الجميع يحبونها لكن يشتعلون غضبًا من شرودها، لا تعرف هل هي معك تسمعك أم أنها في عالم آخر، وتلك هي مشكلتها الكبرى، لا تؤذي أحدًا، ولا يمكن لوالديها أن يعاقباها على صمتها، لكن هناك شيء يشغلها لكن ما هو .. الله أعلم.
دائما ما تكون حديث والديها عند النوم، فهل هي بخير؟ هل تعاني من أزمة نفسية ولا أحد يعلم، ولكن كيف وهي أمام أعينهم طوال الوقت!
تقترح أختها الكبرى عرضها على طبيب نفسي، لكن والديها يرفضان بشدة ذلك، خوفًا من أن تطالها سمعة الجنون، فلا يزال هناك قدر عال من الجهل، ولا زالت ثقافة البعض أن من يذهب لطبيب نفسي شخص مجنون.
لا تبالي سعدية بشيء مما يدور حولها، تمنى نفسها بليلة الزفاف، تنتظر لحظة ارتداء الفستان الأبيض، فلا تنام، فهي تعلم بقرب زيجتها رغم أنها لم توافق على أحد ممن تقدموا لخطبتها حتى الآن، لكن جاء دورها في الزواج فهي الأخت الوسطى، وقد تزوجت الكبرى.
تقف طوال ساعات الليل تطل من شرفة منزلها، تنظر للسماء، تحادث القمر والنجوم، تتحدث إلى شخص مجهول لا يراه أحد سواها، تتمتم ببعض العبارات والتي لا يفهمها أحد، وعندما تستيقظ أختها الصغيرة هدى في منتصف الليل بسبب العطش تجدها تحادث نفسها، فتحاول أن تفهم مع من تتحدث، ومع من تنظر إلى السماء، لكن لا أحد.
يبدو أنها كانت تتحدث إلى الله تنشده رغباتها وتتمنى تنفيذها، هي تثق ثقة مطلقة، لكن أكثر كلمة كانت ترددها: أنا على على العهد يا الله وعلى كتابك وعلى سنة نبيك يا الله.
عهد مع الله
لا أحد يفهم ماذا تقصد تحديدًا، لكنها كلما خلت إلى نفسها ذكرت «أنا على العهد يا الله»، وكأنها عاهدت الله على شيء لم تبح به لأحد، وأن هناك عهدًا سريًّا مبرمّا لا يعلمه غيرها.
هيا تفضلوا .. هيا تفضل يا عم أحمد، تفضل يا حاج إبراهيم، أهلا يا محمد، تفضل يا ابني.
يدخل الزائرون الغرفة المخصصة لاستقبال الضيوف، ليجدوا مائدة كبيرة في انتظارهم.
يردد محمد: ماشاء الله، لقد شققنا عليكم كثيرًا، لماذا كل هذه التكلفة يا عمي؟ هذا كثير جدًا.
-لا شيء كثير على الأحباب.
«بصلة المحب خروف»، هكذا يتدخل الحاج إبراهيم.
يضحك الجميع .. اللهم اجعله في ميزانك.
يتحدث الرجال عن فضل الصيام على المسلم وعن أثاره على النفس وتهذيبها وإراحة المعدة وأجهزة الجسم.
الله أكبر الله أكبر.
أذَّن المؤذن لصلاة المغرب، يتناول الرجال التمر، ثم يقومون للصلاة جماعة داخل المنزل، لينتهوا منها ليبدأوا تناول الإفطار.
«اللهم اطعم من أطعمنا واسقِ من سقانا.. أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ورزقكم الله فيمن عنده».
آميييين.
هكذا ردد الزائرون بعد تناول الطعام.
استأذن واحد وراء الآخر لغسل يديه بعد تناول الطعام، يفسح لهم والد سعدية الطريق ليتأكد من عدم وجود أحد داخل دورة المياه.
رجل وراء الآخر، حتى جاء محمد الذي يلمح سعدية بطرف عينيه تعد المشروبات الساخنة في المطبخ والتي يقع في مواجهة دورة المياه، فيحمد الله في نفسه على ما هداه إليه.
يضحك الرجال ويتحدثون عن أحوال البلاد، لكن يقطع الحاج إبراهيم:
أكلنا وشربنا الشاي وناقشنا أحوال العالم .. يبقى أحوالنا.
تفضل يا حاج إبراهيم.
يا ابو سعدية تعرفني جيدًا، وتثق فيما أقدم عليه.
طبعًا يا حاج أنت مثل والدي.
إذًا لا داعي للمقدمات.
نريد ابنتك سعدية لابننا محمد.
هل الفتاة فاقدة العقل؟
لم يكن ذلك الطلب مفاجئًا بالنسبة لوالد سعدية؛ فهو شعر منذ ثلاثة أيام بأن هذا هو المقصد من طلب القدوم للمنزل والإفطار معه، فالحاج إبراهيم في صلاة الجمعة قد لمَّح له بالأمر لكن ليس بشكل واضح.
تكلم معه في العموم عن الستر وأهمية تزويج الفتيات، فالعمر يجري مسرعًا، ولا بد من الاطمئنان عليهم، وتركهم في أيدٍ أمينة، وأن هناك شبابًا يتمنون مصاهرته.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
هذا شرف كبير يا حاج، أنا أعلم محمد راجل وابن رجال، لكن الأمر بيد سعدية وليس بيدي، فتعرف يا حاج إلا الزواج، فلا بد من موافقة العروس.
طبعًا.
هيا ناد عليها خذ رأيها.
لماذا العجلة انتظر للجمعة القادمة حتى تكون قد صلت صلاة استخارة، ويكون محمد قد استخار الله.
يجيب محمد مسرعًا:
استخرت الله يا عمي وعزمت على الأمر، وأنا جاهز ولا يبقى سوى موافقتكم.
حسنا يا ابني .. الجمعة القادمة سيكون عندك النبأ.
يخرج الجميع ولم يبق سوى صاحب المنزل، تدخل عليه زوجته تسأله ما الأمر، فيخبرها بما حدث، فتشعر بسعادة عارمة، ولكن ماذا لو علم الشاب بأن الفتاة فاقدة العقل؟
فاقدة العقل! كيف تقولين ذلك يا امرأة!
البنت في كامل عقلها، هي فقط صامتة.
تغالط الأم نفسها:
وهل يمكن لها أن يجد مثلها.
نعم لا يمكن.
توكل على الله وتحدث إليها.
غدا إن شاء الله تعالى.
سعدية لم تكن بحاجة ليخطرها والدها بالأمر، هي تلمح الأحداث قبل أن تحكى لها، وهي تعلم محمد جيدًا؛ فهو مدرس بالمرحلة الابتدائية، شديد الخلق، قليل الكلام، ذاع سيطه بسبب إتقانه وتفانيه في عمله واجتهاد كل من يدرس تحت يديه.
تتحدث لها والدتها عن أمره، فتنصت سعدية لها، لكنها كعادتها تذهب بخيالها بعيدًا، لتصرخ والدتها: وهل ستفعلين ذلك معه؟ هل سيتحدث لك زوجك وتتركينه يكمل الحديث وحده؟ هل هو مجنون يتحدث لنفسه؟
تبتسم الفتاة ولا تجيب، فهي وحدها تعلم ما يحدث بداخلها، تكتفي: الحمد لله الحمد لله.
السكوت علامة الرضا
لم تأخذ منها الأم إجابة، وإن كان السكوت علامة الرضا، فهل هي سمعتها جيدًا، هل أدركت كل ما قالته الوالدة؟ أم شردت في منتصف الطريق؟ جميعها أسئلة تدور في ذهن والدتها دون أن تجد من يجيبها.
تجلس سعدية في غرفتها تشكر الله على ما حدث، «لم تخذلني يا الله، شكرًا يا لله»، تصلي ركعتين شكرًا لله على محمد وعلى هذه الزيجة.
تجري الأمور بسرعة جدًّا، وتقام الأفراح وتعلق الزينات، فيأتي يوم الحنة ترتدي ثوبًا ملتفًا حولها فلا يظهر منها شيء وتخرج وسط أقاربها وصديقاتها، فتضع الحنة على يديها وقدميها، وتجلس وسط الناس يغنون ويرقصون لها حتى ساعات متأخرة من الليل، فينفض الجميع على أن يعودوا اليوم التالي.
يصمت كل هذا الصخب، لا تبقى سوى روائح الأفراح، الجميع نيام، ووحدها سعدية تمني نفسها بتلك الليلة: أنا على العهد يا الله.
يأتي محمد بزيه التقليدي المطرز بالحرير الملون، يلتف الجميع حوله يصلون على النبي عليه الصلاة والسلام ثم يقرأون الفاتحة، ثم يكتب الكتاب وتتم الزيجة على مذهب الإمام أبي حنيفة.
يعود كل إلى منزله، وتدخل سعدية منزلها الجديد، ليصلي بها زوجها قبل أن يبدأ في تناول طعامهما الذي أعده الأهل لهما ليكون ذلك أول طعام يأكله الزوجان معها.
شكرًا يا الله.
دقات قلبها تمر مسرعة، قلبها كاد أن يتوقف، يقترب منها زوجها، يداعبها، يقترب أكثر، العرق يتصبب منها، لا تتركني يا الله.
آآآآآآآه دماء تسيل بين فخديها.
حالة من الذهول تسيطر عليها، ماذا حدث؟ دماء؟ كيف؟ هل يمكن أن يحدث هذا؟
دماء عذريتي!
أنا لا زلت عذراء! .. كيف!
نوبة من البكاء الهيستري، لا تتوقف أبدًا عن البكاء، يحتضنها محمد، يحاول تهدئتها، فهو يشعر بما يمر بها ولحظات الفقدان الأولى والممارسة الجنسية الأولى، قد يكون بكاء الفرح؟
يعطيها مشروب الليمون الدافيء حتى تهدأ.
بالفعل تصمت قليلًا، لكنها تعاود البكاء.
محمد لا يمل منها، يشرع في تهدئتها من جديد، يقنعها بفائدة الماء الساخن وأهمية الاستحمام به حتى تعود لها سكينتها، تلبي نصيحته، تدخل دورة المياه، تفتح صنبور الماء الساخن الذي يتدفق فوقها، تسند برأسها على الحائط، تتذكر كل ما مضى، تبكي تحت الماء.. انتهى الكابوس، تسأل نفسها وتتعجب وتجيب على نفسها:
نعم انتهى، انتهى شكرًا شكرًا شكرًا يا الله.
بكاء انقضاء الغمة
لم تكن تتخيل تلك السعدية التي لم تهنأ أبدًا بنصيب من اسمها على مدار أكثرمن 10 سنوات أنها لا زلت بكرًا عذراء، فقط سقطت من أعلى شجرة عندما كانت في العاشرة من عمرها، فكانت تلعب مع صديقاتها وتحاول كل منهما أن تؤكد أنها الأشد قوة ولديها القدرة على تسلق الشجرة العالية قرب المدرسة، فما كان منها إلا أن سقطت وسالت الدماء بين فخديها، لتتأكد أنهافقدت عذريتها ولم تعد فتاة وأن والدها سيقتلها أو يدفنها حية، ليظل ذلك رغبة دفينة بداخلها، لكنها تعاهد الله على الصلاة الدائمة وعدم تسلق الشجرة ثانية وسماع كلام والديها ليعفو عنها ولا يفضح أمرها حتى لا يكون مصيرها القتل، لتشرد بذهنها بعيدًا طوال الوقت فلا هي على الأرض ولا هي في السماء: الحمد لله أنا على العهد يا الله.
تغتسل من حزنها ومن عذريتها، فيفتح لها الزوج أبوابه لتبدأ حياة جديدة مليئة بالسعادة والسلام بعد عشر سنوات من العذاب، لتضحك بعلو صوتها على ما فات وتحمد الله على ما جاء لينادي المؤذن: الله اكبر الله أكبر، فتردد: الله أعلى وأجل. سبحانك يا رب يا رحيم بعبادك الطيبين.