
لم تكن قضية توقيف المدير العام لشركة تاركو للطيران، سعد بابكر، مجرد إجراء قانوني عابر، بل واحدة من الوقائع التي كشفت مبكرًا عن اختلال خطير في العلاقة بين السلطة والعدالة، فبين جدران السجن، وخارج أي إدانة قضائية، وجد رجل أعمال يقود مؤسسة وطنية نفسه ضحية لاستخدام النفوذ خارج إطار القانون، في مشهد يعكس كيف يمكن أن تتحول أدوات الدولة إلى وسائل ضغط وإذلال، ومع عودة هذه القضية إلى الواجهة عبر شهادة صحفية موثقة، تتكشف تفاصيل أعمق عن ظلم مُمنهج، لم يستهدف فردًا بعينه فحسب، بل مسّ جوهر العدالة وسيادة القانون في مرحلة مفصلية من تاريخ البلاد
توقيف سعد
وعادت قضية توقيف المدير العام لشركة تاركو للطيران، سعد بابكر، إلى الواجهة مجدداً، بعد شهادة صحفية أدلى بها الصحفي مهند الشيخ في مقطع فيديو متداول على منصات التواصل الإجتماعي، كشفت تفاصيل جديدة حول واحدة من أكثر وقائع استغلال النفوذ إثارة للجدل في مرحلة ما قبل تمرد مليشيا الدعم السريع، وتفتح هذه الشهادة، إلى جانب الوقائع المثبتة قضائيًا، نقاشًا واسعًا حول استخدام السلطة خارج إطار القانون، وتحويل الاعتقال من إجراء عدلي إلى أداة ضغط وابتزاز.
بحسب ما رواه مهند الشيخ، فإن واقعة سجن سعد بابكر جاءت بتوجيه مباشر من نائب قائد قوات الدعم السريع آنذاك، عبدالرحيم دقلو،وأوضح الشيخ أن ذلك تم في سياق حديث جرى داخل منزل الفريق عباس عبدالعزيز، بحضور عدد من الشخصيات، حيث تحدث دقلو، وفق الشهادة، عن رغبته في السيطرة على شركة طيران، مشيرًا إلى أن سعد بابكر موجود في السجن، ولن يُفرج عنه ما لم يتنازل عن شركة تاركو.
وأشار مهند الشيخ كذلك إلى أن عبدالرحيم دقلو تحدث بثقة عن امتلاكه أوامر قبض موقعة ومختومة سلفًا، يمكن تنفيذها بمجرد إضافة اسم الشخص والمادة القانونية، وهي رواية، إن ثبتت، تعكس نمطًا بالغ الخطورة في توظيف أدوات العدالة بصورة شكلية، وتحويلها إلى وسيلة جاهزة للضغط خارج أي مسار قضائي مشروع.
سعد بابكر، في ذلك الوقت، لم يكن متهمًا في قضية جنائية مثبتة، ولا طرفًا في نزاع سياسي أو أمني، كان رجل أعمال يدير شركة وطنية تعمل في قطاع الطيران، أحد أكثر القطاعات حساسية من حيث التنظيم والرقابة. ورغم ذلك، جرى توقيفه ومكث في السجن أكثر من ثمانية أشهر، في واقعة شكّلت صدمة واسعة للرأي العام.
تفاصيل الاحتجاز
والأخطر في تفاصيل الاحتجاز، بحسب ما توفر من معلومات، أن سعد بابكر وُضع في سجن كوبر مع سجناء من أصحاب القضايا الجنائية الخطيرة، بما في ذلك أصحاب المادة 130 من القانون الجنائي المتعلقة بالقتل العمد، وهو إجراء يطرح تساؤلات قانونية جوهرية حول مشروعية هذا التصنيف وطبيعته.
وفي هذا السياق، يقول الخبير القانوني محمد عبدالله، إن الزج بشخص موقوف على ذمة اتهامات غير جنائية، أو لم تثبت بحقه جريمة عنف، في عنابر تضم متهمين بجرائم جسيمة مثل القتل العمد، يُعد انتهاكًا واضحًا لمبادئ المعاملة الإنسانية للموقوفين، ومخالفة صريحة لقواعد السجون والمواثيق القانونية.
وأضاف أن القانون يوجب تصنيف المحتجزين بحسب طبيعة التهم، لا استخدام مكان الاحتجاز كوسيلة عقاب أو ضغط نفسي،ويشير الخبير إلى أن وضع سعد بابكر مع أصحاب المادة 130 لا يمكن تفسيره قانونيًا، بل يُفهم في سياق الإذلال المتعمد وكسر الإرادة”، موضحاً أن مثل هذه الممارسات تُصنّف كتعسف في استخدام السلطة، وقد ترقى إلى مسؤولية قانونية جسيمة إذا ثبت أنها تمت بقصد الإكراه أو الابتزاز
معاملة مهينة
و بحسب روايات متطابقة تعرض سعد خلال فترة احتجازه لمعاملة مهينة، شملت مطالبته بأعمال لا تليق بموقوف لم تصدر بحقه إدانة، في مشهد لم يكن هدفه تطبيق القانون، بل الضغط النفسي وتحطيم الكرامة الإنسانية.
وبالتوازي مع السجن، أُطلقت حملات تشويه منظمة استهدفت سمعته الشخصية وشركة تاركو للطيران، عبر تداول روايات مفبركة وتضخيم اتهامات لم تصمد لاحقًا أمام القضاء، ويؤكد الخبير القانوني محمد عبدالله أن تشويه السمعة في سياق إجراء قانوني يُعد قرينة إضافية على سوء النية، خاصة عندما يُستخدم لتبرير الاحتجاز أو التأثير على الرأي العام قبل صدور أي حكم”.
هذا الضغط المركّب، النفسي والجسدي، انعكس بوضوح على صحة سعد بابكر. فقد أُصيب بارتفاع ضغط الدم، ومرض السكري، وأمراض في القلب، قبل أن تتدهور حالته الصحية لاحقًا ويضطر للسفر إلى الأردن، حيث خضع لعملية جراحية في القلب، بعد خروجه من السجن.
وعندما وصلت القضية إلى نهايتها القانونية، قضت المحكمة العليا ببراءة سعد بابكر من جميع التهم المنسوبة إليه،ويصف الخبير القانوني هذا الحكم بأنه دليل قاطع على أن الاعتقال لم يكن قائمًا على أساس قانوني متين، وأن ما جرى يمثل نموذجًا واضحًا للاعتقال التعسفي.
تداعيات القضية
غير أن تداعيات القضية لم تتوقف عند حدود السجن. فلاحقًا، ومع اندلاع الحرب وتمرد مليشيا الدعم السريع على الدولة، تعرضت شركة تاركو للطيران لاستهداف مباشر، شمل تدمير طائراتها ونهب أصولها، في تطور رآه مراقبون امتدادًا لمنهج بدأ باستخدام السلطة خارج القانون، وانتهى بالعنف المسلح.
قضية سعد بابكر، في ضوء هذه المعطيات، لم تعد مجرد واقعة فردية، بل مثالًا صارخًا على مخاطر تسييس العدالة، وتغوّل القوة على القانون، وهي تذكير بأن حماية الحقوق لا تتوقف عند صدور الأحكام، بل تبدأ من ضمان ألا يُستخدم القانون نفسه أداة للإذلال أو الابتزاز.
وفي بلد يسعى لإعادة بناء دولة القانون، تبقى مثل هذه القضايا ضرورة للفهم والمحاسبة، لا للثأر، حتى لا يتكرر الظلم ذاته تحت أي ظرف أو مسمى.



