مقالات

إسماعيل حسن عثمان يكتب : سعد الخير.. من محنة الظلم إلى وضوح الحقيقة

تابعتُ، كما تابع كثيرون، ردود الأفعال الواسعة والمنصفة التي عبّر عنها زملاء صحفيون وكتّاب رأي، وهم يحتفون بظهور الحق، وانكشاف حقيقة الظلم الذي تعرّض له الأخ سعد بابكر المدير العام لشركة تاركو للطيران،لم تكن تلك الردود مجاملة عابرة، بل تعبيراً صادقًا عن شعور عام بأن واقعة طال السكوت عنها بدأت أخيراً تُروى كما حدثت، بلا تزييف ولا مواربة.،وفي قلب هذا الإجماع، برز اسم سعد بابكر لا بوصفه ضحية فحسب، بل بوصفه رجلًا نبيلاً، عُرف بإنسانيته، ونقاء سيرته، ووقوفه الدائم إلى جانب الناس بصمت وكرم، بعيداً عن الأضواء والادعاء.
ليست كل القضايا التي تمر على الرأي العام متشابهة، فبعضها لا يكتفي بإثارة الجدل، بل يكشف خللًا عميقًا في بنية العلاقة بين السلطة والعدالة،قضية سعد بابكر، المدير العام لشركة تاركو للطيران، تنتمي إلى هذا النوع من القضايا، لأنها لم تكن مجرد إجراء قانوني انتهى بحكم براءة، بل تجربة قاسية لظلمٍ طال الإنسان والسمعة والمؤسسة في آنٍ واحد.
ما أعاد هذه القضية إلى الواجهة هو حديث الصحفي مهند الشيخ، الذي سرد تفاصيل لم تُعرف من قبل، أو عُرفت همسًا دون شهادة مباشرة.،حديثه لم يكن انطباعًا شخصيًا، بل رواية دقيقة لوقائع قال إنه كان شاهدًا عليها، في وقتٍ كانت فيه بعض مراكز القوة تتصرف بثقة من يعتقد أن القانون في متناول اليد.
بحسب ما رواه مهند الشيخ، فإن واقعة سجن سعد بابكر لم تكن وليدة بلاغ قانوني طبيعي، بل جاءت في سياق جلسة خاصة حضرها عدد من الشخصيات، من بينهم عبدالرحيم دقلو، الذي كان يشغل آنذاك منصب نائب قائد قوات الدعم السريع. في تلك الجلسة، جرى الحديث عن شركة طيران، وعن رغبة في السيطرة عليها، ثم ذُكر اسم سعد بابكر باعتباره شخصًا “في السجن”، ولن يخرج – وفق الرواية – إلا إذا قبل التنازل عن شركته.
الأخطر في هذه الرواية ليس مضمونها فقط، بل ما قيل عن آلية تنفيذها،إذ تحدّث عبدالرحيم دقلو، بحسب شهادة مهند الشيخ، عن أوامر قبض جاهزة، موقعة ومختومة، لا ينقصها سوى كتابة الاسم والمادة القانونية، وهي رواية، إن صحت، فإنها تضع العدالة نفسها موضع الاتهام، وتكشف كيف يمكن أن يتحول الإجراء القانوني إلى وسيلة ضغط لا علاقة لها بالحق أو الجريمة.
الوقائع تؤكد أن سعد بابكر اعتُقل بالفعل، ومكث في السجن أكثر من ثمانية أشهر. وخلال تلك الفترة، لم يتعرض فقط لتقييد حريته، بل لوضع قانوني وإنساني قاسٍ، إذ أُودع في سجن كوبر وسط متهمين بجرائم جنائية جسيمة، من بينهم أصحاب المادة (130) المتعلقة بالقتل العمد، وهو إجراء يثير تساؤلات قانونية وأخلاقية عميقة حول معايير الحبس، ومقاصده، وحدوده.
في الوقت ذاته، لم يتوقف الضرر عند جدران السجن، فقد تعرضت سمعة سعد بابكر لحملات تشويه قاسية، نُسجت فيها روايات غير دقيقة، وتضخّمت اتهامات لم تثبت أمام القضاء. تشويه السمعة هنا لم يكن أثرًا جانبيًا، بل جزءًا من الضغط، وأداة لتبرير ما لا يمكن تبريره.
هذا الضغط المركّب ترك أثره الواضح على صحة الرجل، إذ تدهورت حالته الصحية، وأصيب بأمراض مزمنة شملت ارتفاع ضغط الدم، والسكري، وأمراض القلب، قبل أن يخضع لاحقًا لعملية جراحية في القلب خارج البلاد، وهي كلفة إنسانية لا تُقاس بالأرقام، لكنها تظل شاهدة على ثمن الظلم حين يتجاوز الورق إلى الجسد.
وعندما وصلت القضية إلى نهايتها القانونية، أصدرت المحكمة العليا حكمها ببراءة سعد بابكر من جميع التهم المنسوبة إليه،كان الحكم واضحًا وحاسمًا، ومعبّرًا عن حقيقة لم يعد ممكنًا تجاهلها: أن ما جرى لم يكن مسارًا قانونيًا سليمًا، بل انحرافًا خطيرًا في استخدام السلطة.
غير أن الأهم في هذه القصة لا يكمن فقط في البراءة، بل في ما كشفته من هشاشة المرحلة التي وقعت فيها، مرحلة كان فيها بعض النافذين يتعاملون مع القانون بوصفه أداة، ومع الحريات باعتبارها قابلة للتعليق، ومع السمعة الإنسانية ككلفة جانبية.
سعد بابكر، رغم كل ما تعرّض له، ظل معروفًا بسيرته الطيبة، وبأفضاله على الناس، وبحضوره الإنساني الهادئ، ودعمه للمبادرات الخيرية والمجتمعية، دون ضجيج أو منّة، لم يكن رجل صدام، بل رجل عمل وخير، وهو ما جعل ما وقع عليه أكثر إيلامًا، وأكثر فجاجة.
إن استعادة هذه القضية اليوم ليست دعوة للانتقام، ولا لإعادة فتح جراح الماضي، بل ضرورة أخلاقية لفهم كيف يبدأ الظلم حين يُسمح للسلطة أن تتجاوز القانون، وكيف تتضرر الأفراد والمؤسسات والمجتمع معًا، وهي تذكير بأن العدالة لا تُختبر فقط في قاعات المحاكم، بل في قدرة الدولة على حماية مواطنيها من التعسف، مهما كانت مواقعهم.
قصة سعد بابكر تظل شهادة على أن الظلم، مهما طال، لا يستطيع أن يطمس الحقيقة، وأن السمعة التي تُبنى على العمل والخير لا تسقط بحملة، ولا بسجن، ولا بزمنٍ مختل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى